مقالات مختارة
يقول كاتب النشيد الوطني التركي محمد عاكف: "يقولون عن التاريخ إنه يكرر نفسه، فلو استخلصت الدروس منه، هل يكرر نفسه؟". هذه هي حال الجغرافيا العربية والإسلامية بكل شعوبها وحكامها ومثقّفيها الذين فشلوا في استخلاص الدروس والعبر من كل ما عاشوه خلال مئة عام ونيف على الأقل، علماً أن المخططات والمشاريع الصهيو-أميركية لم تتغير في جوهرها، وكان شعارها دائماً: "فرق تسد واشترِ العملاء"، وهي المقولة التي اعتمدتها الدول والقوى الإمبريالية والاستعمارية؛ حليفة الصهيونية العالمية، مع بدايات الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية التي حكمت الجغرافيا العربية لمدة 400 عام.
وجاء دخول أميركا على خط التآمر في هذه الجغرافيا بعد الحرب العالمية الثانية ودورها الرئيسي في إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين عام 1947 ليحمّل حكام المنطقة من العرب والترك (1950 – 1960) والفرس (1950 – 1979) مسؤولية الدفاع عن هذا الكيان بشكلٍ مباشر أو غير مباشر بجهل أو بغباء، وإلا ليس هناك أي تفسير منطقي بسيط لكل ما عاشته الجغرافيا العربية والإسلامية طيلة السنوات الماضية، وهو ما يتناقض مع حقائق هذه الجغرافيا على الصعد البشرية والاقتصادية والاستراتيجية.
على سبيل المثال، يسيطر العرب على مضيق باب المندب وخليج عدن وبحري الصومال وعمان وقناة السويس ومضيق جبل طارق ومضيق هرمز ونحو ثلثي مياه الأبيض المتوسط والأحمر، وتطل إيران بدورها على خليج بصرة، وتشرف على مضيق هرمز، ومعها الإمارات وسلطنة عمان التي تطل على بحر عمان بأكمله.
أما تركيا، فتسيطر على مساحات واسعة من البحر الأسود وبحر إيجة والأبيض المتوسط وبحر مرمرة الذي يربط بين مضيقي الدردنيل والبوسفور. وبدوره، يربط مرمرة بالبحر الأسود الاستراتيجي بالنسبة إلى روسيا أولاً، ثم بلغاريا وجورجيا ورومانيا وأوكرانيا التي تطل على البحر الأسود.
بالعودة إلى مقولات "فرق تسد واشترِ العملاء"، وهدفها منع "أي قوى أخرى" من السيطرة على هذه البحار والمضائق الاستراتيجية بالنسبة إلى العالم أجمع، فقد نجحت الدول والقوى الصهيو/إمبريالية في زرع الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي، ونجحت في استعداء العرب والترك والفرس بعضهم لبعض، من دون إهمال الكرد في الدول الأربع معاً أو على انفراد، وحتى لو أدى ذلك إلى اقتتالهم.
عربياً، ومن دون الدخول في تفاصيل الماضي، أراد الغرب للمغرب الذي يطل على مضيق جبل طارق أن يكون متواطئاً وعميلاً للكيان الصهيوني وحماته في الغرب الإمبريالي، وهو يريد لهذا البلد العربي أن يكون عدواً لجاره العربي الجزائر الذي عانى ما عاناه من الإسلام السياسي؛ صنيعة الغرب الإمبريالي، منذ ميلاده في القرن الماضي.
وبعد 42 عاماً من تناقضات حكم القذافي الذي طرد القواعد الأميركية والبريطانية وتحالف مع المد القومي الناصري ودعم حركات التحرر الأفريقية، أوصل الغرب الإمبريالي وحلفاؤه الإقليميون ليبيا إلى ما وصلت إليه بعد ما يسمى بالربيع العربي، وأوصل أيضاً تونس ومصر والسودان إلى ما وصلت إليه بعدما مهّد السادات باتفاقية كامب ديفيد الطريق لهذا المسار الخطير بكل تفاصيله وتبعاته ونتائجه الخطيرة.
أصبح السودان سودانين، واختلط الحابل بالنابل في الصومال وجيبوتي، مع استمرار التآمر الصهيوني على الجميع في أفريقيا، وبشكل خاص عبر إثيوبيا؛ العدو اللدود لمصر ومن معها في القارة السمراء، وللصهاينة فيها الكثير من العملاء والمتواطئين، وهي الحال في الشرق العربي قبل وبعد ما يسمى بالربيع العربي الذي كان وما زال فيه لأنظمة الخليج ومن معها من المتآمرين دورها الأكبر بشكل مباشر أو غير مباشر، تارة مع تل أبيب، وتارة أخرى مع أنقرة، وفي جميع الحالات مع العواصم والقوى الصهيو/إمبريالية التي استمرت في سياساتها الدموية وبشعاراتها المعروفة "فرق تسد واستفد من العملاء".
نجحت هذه العواصم والقوى في استعداء العرب للعرب، والعرب للأتراك، والأتراك للعرب، والعرب للفرس، والفرس للأتراك، وجميعاً معاً أو على انفراد للكرد، واختلفوا فيما بينهم في الولاء والتبعية للدول والقوى المذكورة بامتداداتها الإقليمية، سراً كان أم علناً.
وفي هذا الإطار، وحتى إن تجاهلنا ما عشناه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد تم تدمير جميع دول الربيع العربي وقتل مئات الآلاف من شعوبها وتشريد الملايين من خيرة أبنائها إلى الخارج لتبقى دولهم مسرحاً ومرتعاً خصباً للمتآمرين والخونة داخلياً وخارجياً، وإلا لماذا تعادي أنظمة الخليج جارتها إيران بذريعة برنامجها النووي في الوقت الذي تملك تل أبيب ما يكفيها لإزالة هذه الأنظمة من الوجود لولا الخوف من إيران التي تتضامن مع قضية العرب الأولى فلسطين؟ ولماذا تتحجج هذه الأنظمة بخطر إيران "الشيعية"، وهي التي تستضيف في أراضيها (ومعها تركيا وباكستان) عشرات القواعد الأميركية ومراكز التجسس الصهيونية، سراً كان أم علناً؟
ولماذا تعتدي هذه الأنظمة منذ آذار/مارس 2015 على اليمن العظيم وتسعى لتفتيت شعبه إرضاء للمشاريع الصهيو/إمبريالية التي تسعى للسيطرة على البحر الأحمر بعد توغلها في إثيوبيا والصومال وجيبوتي والسعودية ومصر التي تخلّت عن جزرها (صنافير وتيران) للرياض في إطار المشاريع والمخططات التي لا تخدم سوى استراتيجيات الكيان الصهيوني الذي ركع أمامه حكام الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، ومن قبلهم مصر والأردن، وكانت السعودية في هذا الطريق لولا أحداث غزة الأخيرة؟
ولماذا وكيف أصبحت تركيا بكل تناقضاتها في ظل حكم الرئيس إردوغان (21 عاماً) طرفاً مباشراً في مجمل تطورات المنطقة وأحداثها، تارة بعلاقات متوترة مع "تل أبيب"، وتارة أخرى بالصداقة معها، وكل ذلك بضوء أخضر مباشر أو غير مباشر من الدول والقوى الصهيو-إمبريالية التي لا تفوّت أي فرصة لاستعداء شعوب المنطقة بعضها البعض بفضل "ارتباطات" حكامها الأغنياء والأغبياء معهم، ولا تفسير لتواطؤ هؤلاء إلا جينيًا!
ولماذا تتجاهل كل هذه الأنظمة العدوان الهمجي الإرهابي الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، ولا تستطيع إيصال حتى المساعدات الإنسانية إليهم؟
ثم لماذا لا تحرك ساكناً تجاه العدوان الأميركي البريطاني الإمبريالي على اليمن الصامد، ولولاه لما صمد الشعب الفلسطيني، ولما تحركت جنوب أفريقيا ضد "إسرائيل" في محكمة العدل الدولية، والآن ضدّ أميركا وبريطانيا في محاكم هاتين الدولتين، وهو الموقف الذي سيدفع الجميع، باستثناء الأنظمة العميلة، إلى إعادة النظر في مواقفها في نهاية المطاف، فالسفن التي لن تستخدم مسار باب المندب في طريقها إلى أوروبا ستضطر إلى المرور من رأس الرجاء الصالح، أي أمام سواحل جنوب أفريقيا، التي يعرف الجميع أنها لن تتردد في القيام بشيء ما ضد كل من تآمر عليها عبر التاريخ، وهي على استعداد لأن تفعل ذلك الآن أيضاً!
السؤال الآن: ما العمل، بعدما بات واضحاً أن الأمل يتضاءل لإقناع الأنظمة العربية بإعادة النظر في تواطؤها وتآمرها التقليدي ضد شعوبها وشعوب المنطقة خدمة للمشاريع والمخططات الصهيو/إمبريالية؟
يبقى الرهان الوحيد على أهمية وضرورة احتمالات التلاقي التركي الإيراني السوري بعقلية ونهج جديدين، على أن ينسى الجميع كل ذكريات الماضي، القريب منه والبعيد، ليبقى الباب مفتوحاً لكل من يريد الانضمام إلى هذا التلاقي، لا ليكون ضد أحد، بل من أجل سد الطريق على المزيد من المؤامرات التي تستهدف الجميع معاً أو على انفراد.
وقد تحدث الإعلام التركي والمسؤولون الأتراك، وما زالوا، عن دور الكيان الصهيوني وأميركا والحلف الأطلسي في "دعم حزب العمال الكردستاني والإرهابيين الكرد في سوريا"، الذين قتلوا 21 من العساكر الأتراك في شمال العراق خلال الأسابيع الثلاثة الماضية فقط، في الوقت الذي تستهدف إيران بؤر التآمر عليها في شرق سوريا وأربيل الكردية، ويتصدى حزب الله لأي سيناريو صهيو/إمبريالي، ليفشل، ومعه أنصار الله، كل المخططات والمشاريع الخطيرة التي تستهدف جميع الذين لا يفقهون وهم صمّ بكم لا يبصرون ولا يفقهون ولا يعقلون خوفاً من سيدهم الصهيو-أميركي الذي لقَّنه "حفاة اليمن العظماء" الدرس الذي لن ينسوه أبداً بعد صمود نساء وأطفال وشباب فلسطين ومن معهم من الشرفاء في المنطقة والعالم.
لقد آن الآوان لهم جميعاً لينتقلوا من موقف الدفاع إلى موقع الهجوم، ويقفوا صفاً مرصوصاً خلف أبناء مانديلا وأحفاده الذين سيغيرون حقائق التاريخ برمتها قريباً، وإن غداً لناظره قريب!
حسني محلي ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً