مقالات مختارة
فيما لا تزال "إسرائيل" مشغولة بالتوافق داخلياً على ماهية اليوم التالي لما بعد الحرب على قطاع غزة، فإن هذا اليوم يبدو واضحاً من وجهة نظر سكان القطاع، ويمكن اختزاله بثلاثة حقوق رئيسية: العودة إلى مناطقهم ومنازلهم التي هجروا منها بفعل القصف الصهيوني الممنهج خلال الأشهر الثلاث الماضية، ورفع الحصار المفروض على القطاع والسماح بدخول المساعدات بمختلف أنواعها وبكميات كافية، وثالثاً إعادة إعمار ما هدمته آلية الحرب الإسرائيلية، لكن ما شاهدناه من تخاذل عربي وإقليمي وتواطؤ غربي يطرح عدة تساؤلات لا يمكن تجاوزها، وهي من قبيل: من هي الدول التي ستضمن تحقيق هذه الحقوق؟ وما موقف "تل أبيب"؟
خلاصة 100 يوم
بعد ما يزيد على 100 يوم على بدء جريمة الإبادة الجماعية التي لا تزال "إسرائيل" تضيف إليها يومياً مزيداً من الضحايا الفلسطينيين الأبرياء، يمكن القول إن صورة الأطراف الفاعلة أو المؤثرة أو المعنية بتداعيات العدوان على غزة باتت جلية:
- عجز عربي رسمي عن وقف العدوان، سواء بالضغط على الولايات المتحدة الأميركية التي تعدّ بمنزلة الشريك الأساس في هذا العدوان أو على "إسرائيل" المرتبطة بعلاقات واتفاقيات سياسية واقتصادية مع عدة دول عربية لم يجرؤ أي منها على قطعها رغم المجازر المهولة المرتكبة.
- انحياز الحكومات الغربية وتأييدها المعلن لتل أبيب لم يمنع العديد من الدول الأخرى من إبداء مواقف لافتة من قبيل قيام بعضها بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع "إسرائيل"، وسحب بعضها الآخر لسفرائها، وتوجيه ثالثة انتقادات مباشرة إلى الكيان الصهيوني ومطالبته بوقف عدوانه على غزة.
ولعل تحرك جنوب أفريقيا الأخير نحو محكمة العدل الدولية، متهمة "إسرائيل" القيام بأعمال إبادة جماعية ضد الفلسطينيين، يمثل أحدث تطور في المواقف الدولية المعارضة للكيان الصهيوني.
- تشكل رأي عالمي مطالب بوقف العدوان الحالي، وأيضاً مساند للقضية الفلسطينية، رغم الانحياز والتأييد الإعلامي والسياسي الغربي للعدوان الإسرائيلي. وقد تبلور هذا الرأي العالمي من خلال تظاهرات التأييد للقضية الفلسطينية التي جابت معظم العواصم والمدن العالمية، وكذلك من خلال شبكات التواصل الاجتماعي ومنصاتها، التي تمكن معظمها، رغم القيود التي فرضتها بعض الشركات المالكة لها، وبفضل مجموعة واسعة من الناشطين وقادة الرأي، من مساندة القضية الفلسطينية وتعريف شعوب الأرض بالمجازر الإسرائيلية.
- فشل تل أبيب في تحقيق أي من الأهداف المعلنة للعدوان على قطاع غزة رغم ارتكاب جيشها آلاف المجارز والدمار الهائل. وليس هذا فحسب، بل إن "الجيش" الصهيوني تكبد خسائر بشرية ومادية تفوق قدرته على التحمل والاستمرار لعدة أسابيع أو أشهر، كما يطرح مسؤولو حكومة نتنياهو.
- دخول جبهات إقليمية على خط المواجهة العسكرية المباشرة مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي أحبط المحاولات الأميركية-الإسرائيلية الساعية منذ السابع من أكتوبر إلى حصر المواجهة القائمة بين تل أبيب وبين فلسطينيي القطاع.
هذه المحاولة كان يراد منها حتى استبعاد فلسطينيي الضفة الغربية والقدس الشرقية من المواجهة، وهو ما يعزز فرضية المشروع الذي لا يرقى إليه الشك، والمتمثل في محاولة تهجير سكان القطاع إلى خارجه.
ثلاثة حقوق رئيسية
في ضوء ما سبق، يصبح السؤال عن احتمال تحقق اليوم التالي الذي ينتظره سكان قطاع غزة أكثر ضرورة، لا سيما أن الحروب السابقة التي تعرض لها القطاع لم تحمل الأيام التي تلتها أي انفراجات على صعيد رفع الحصار المفروض على القطاع منذ العام 2007، وكذلك على صعيد إعادة إعمار ما دمرته تلك الحروب. مثلاً، هل تمكن جميع سكان القطاع الذين تضررت منازلهم وممتلكاتهم في عدواني عامي 2009 و2014 من إصلاحها وترميمها بدعم أممي ودولي؟ وهل حصل الأمر نفسه كذلك مع المرافق الخدمية والبنى التحتية؟
تختلف التوقعات حيال إمكانية استعادة سكان القطاع في اليوم التالي للعدوان حقوقهم الأساسية المشار إليها سابقاً، والسبب في ذلك وجود عدة اعتبارات متعلقة جميعها بالعامل الخارجي. ولتوضيح تلك الاعتبارات، يمكن استعراض فرص تحقق ما يطمح إليه سكان غزة في اليوم التالي لما بعد الحرب:
أولاً، رغم أن المخطط الإسرائيلي منذ اللحظات الأولى للعدوان كان يهدف إلى تهجير سكان غزة إلى خارج الأراضي العربية المحتلة، وهذا ما قاله صراحة وزراء في حكومة نتنياهو، فإن صمود سكان القطاع ورفض الدول العربية المشاركة في إحداث نكبة جديدة أفشلا المخطط، بحيث إن مسألة السماح بعودة المهجرين إلى مناطقهم ومنازلهم باتت على جدول الحراك الدبلوماسي، وهذا ما أفصح عنه بوضوح وزير الخارجية الأميركي في جولته الأخيرة في المنطقة.
وأياً كانت الأسباب التي دعته إلى قول ذلك، فإن حق سكان غزة في العودة إلى مناطقهم لم يعد قراراً إسرائيلياً بحتاً، كما حاولت حكومة نتنياهو فرضه مع بداية العدوان.
ثانياً، لن تكون مسألة رفع الحصار سهلة بعد انتهاء العدوان، لأن "إسرائيل" تدرك أن مثل ذلك الإجراء ستكون له تداعيات كبيرة على نمو القطاع اقتصادياً وديمغرافياً، وهو ما تخشاه وتعتبره تهديداً للأمن القومي اليهودي، وإلا ما الذي جعلها تفرض ذلك الحصار منذ العام 2007؟ وما الذي يجعلها اليوم تقبل تحمل فاتورة ضخمة من الخسائر البشرية والمادية؟
في المقابل، لم تعد قادرة على فرض رؤيتها وقرارها بعد ما فعلته في عدوانها الأخير. وبناء عليه، فإن الاحتمال الأقرب إلى التحقق هو تقليص ذلك الحصار، وحصره ببعض المجالات والاشتراطات المرتبطة بالاستخدامات العسكرية والتقنية والتكنولوجية. أما استمرار الحصار، فهذا يعني أن اليوم التالي ليس سوى مرحلة أخرى من الحرب.
ثالثاً، توقف العدوان يشكل أولوية فلسطينية وإقليمية ودولية، إنما ذلك لا يقلل من أهمية تحديات التعامل مع ما خلفه من خسائر بشرية ومادية كبيرة، ولا سيما تحدي تأمين التمويل اللازم لإعادة إعمار القطاع المدمر بنسبة تكاد تكون كاملة على صعيد المرافق الخدمية والبنى التحتية، وبنسبة تتجاوز 60% بالنسبة إلى الأبنية السكنية، لكن ما عجز عنه القطاع سابقاً لجهة توفير رواتب العاملين في المؤسسات الرسمية نتيجة عدم التزام الممولين الخارجيين، فهل يمكن أن يتوفر ما تتطلبه عملية إعادة الإعمار من مليارات الدولارات؟
وكما هو متوقع، فإن الدول الغربية ستربط، ومن دون أدنى شك، أي مساعدات تمويلية لإعادة الإعمار بالمسار السياسي ومستقبل حركة حماس، والدول العربية لن تكون هي الأخرى خارج هذه الحسابات، وخصوصاً أن الدول المؤهلة للتمويل إما أن بعضها يرتبط بعلاقات مباشرة مع "إسرائيل" وبعلاقات متميزة مع الولايات المتحدة الأميركية، وإما أن بعضها الآخر، وإن لم تكن تربطه علاقات مباشرة مع "إسرائيل"، سيكون عرضة لضغوط أميركية لمنع مساهمتها في عملية إعادة الإعمار، وإن كانت إعلامياً تتحدث عكس ذلك.
هنا، تبدو المقاربة متشابهة بين الضغوط الغربية والأميركية لعرقلة أي جهود لإعادة إعمار ما دمرته الحرب في سوريا والموقف الغربي من إعادة إعمار غزة الذي يشترط إنهاء حركة حماس وتلبية الشروط الإسرائيلية، أي تشكيل خيارات الشعب الفلسطيني وفق الأجندات الغربية وحتى الإسرائيلية.
زياد غصن ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً