مقالات مختارة
المتاهة التي جهزتها فصائل المقاومة في غزة لجيش الاحتلال بدأت تحدث مفاعيلها القاصمة لظهر قوات النخبة الإسرائيلية وتغير كل الحسابات المرتبطة بالحرب على غزة. وتيرة الفاعلية الاستثنائية لهذه المتاهة تتصاعد مع مرور الأيام مع المواجهات البطولية التي يخوضها المقاتلون.
تجهيز الأسلحة المناسبة للاشتباك مع قوات الاحتلال، بحسب نوعها ومكانها وطبيعة القوة المهاجمة، يبدو مثالياً؛ فنوعية الأسلحة المستخدمة لا تزال عند الحد الأدنى من الكلفة. وقد وصلت إلى الحد الأقصى من تحقيق الإصابات بصورةٍ يمكن القول أنْ لا بديل أفضل منها في الميدان، حتى لو توفرت أفضل الأسلحة العالمية لهذا النوع من المواجهات.
يعود ذلك بصورةٍ رئيسية إلى طبيعة العامل البشري الذي يعد بدوره استثنائياً، فالحرب أظهرت جودة المقاتلين الفلسطينيين وعلو كفاءاتهم على أعتى القوات الخاصة في العالم.
وإذا كان هؤلاء يتمكنون بكل يسرٍ وتوفيق من تدمير كتائب قوات النخبة الإسرائيلية، فهذا لا يرجع إلى ضعف هذه الأخيرة، بل إلى تفوقٍ في الإعداد البشري لفصائل المقاومة في الدرجة الأولى.
هكذا تحوَّلت الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، كالقاذفات المحمولة والبندقيات الآلية، إضافة إلى العبوات والقذائف المعروفة أو المصنعة محلياً، إلى أسلحة فتاكة في أيدي المقاومين الذين أضافوا إليها الجاهزية النفسية والاستعداد للالتحام المباشر من مسافة صفر، الأمر الذي صنع لها هالةً قاتلة لجنود الاحتلال الذين باتوا يرتعدون من رؤية طيف إحدى هذه الأدوات.
تشير المقاطع المنشورة ودقائق الأخبار الواردة من المعارك الدائرة في مناطق القطاع إلى تكتيكات فريدة تستخدمها المقاومة في تحضير متاهة الموت للجنود المهاجمين، إذ تتنوع المصايد التي تنصب لهم بين عمليات الاستدراج إلى نقاط القتل والإطباق عليهم بالأسلحة المناسبة لطبيعة القوة المستدرجة واستهدافهم في المباني التي يتحصنون بها بالقذائف المضادة للتحصينات، إضافة إلى استهداف التحشدات في المناطق الخلفية بقذائف الهاون والصواريخ قصيرة المدى.
هذه كلها تكتيكات يمكن توقّعها بحسب طبيعة الميدان الذي يعرفه المقاومون، ويعرف العدو أشكالاً منها من مواجهاتٍ سابقة، لكن دمج أنواع مختلفة منها في عملية واحدة يظهر تكتيكاً جديداً غير قابلٍ للحل.
الكمائن التي شهدتها الأيام الماضية تبرز هذا النوع من العمليات المعقدة، التي شملت في العملية نفسها استخدام عبواتٍ من نوع "شواظ" وعبوات تلفزيونية، وإطباقاً بالقذائف المضادة للدروع وتلك المخصصة للأفراد والرشاشات الخفيفة.
وقد أدى ذلك إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى بين جنود العدو الذين استدرجوا إلى كمان معدة مسبقاً، ولم يدركوا أن هذه الكمائن لم تكن منصوبةً لهم وحدهم، بل إن هدفها الأبعد كان استدراج فرق الإسناد التي عادةً ما تشمل أفضل الجنود كفاءة عند العدو. وقد سقط من هؤلاء وأولئك ما لا يمكن احتماله بالنسبة إلى الجيش الإسرائيلي.
بموازاة ذلك، تراجعت إمكانية استهداف طيران الاحتلال وسلاح مدفعيته مناطق الاشتباكات تناسباً مع طبيعة الاشتباك اللصيق، الأمر الذي مكّن المقاومة من إظهار قيمتها المضافة في القتال المباشر والاستفادة من تفوق عناصرها على قوات النخبة عند العدو. الجرأة والإقدام والإيمان بالحقّ ظهرت كلها في هذه الاشتباكات المباشرة، وتحت سماء مكتظّةٍ بأفضل أسلحة التتبع والقصف في العالم.
هذه التطورات والانشغال بالاشتباك المباشر ومقاومة محاولات دخول الأحياء الفسطينية لم تمنع المقاومة من الاستمرار بإطلاق الصواريخ حتى عمق الكيان المحتل، وتهديد "تل أبيب" بصورةٍ أكثر شدة من بداية المعركة.
تعتمد المقاومة، وفق ما تشير إليه هذه التطورات، على رفع نسق فاعليتها مع مرور الوقت، وبمسارٍ معاكسٍ لقدرة الجيش الإسرائيلي على الاستمرار بالوتيرة نفسها من النيران، الأمر الذي يرسم شيئاً فشيئاً شكل الانتصار المقبل، الذي بات أكثر وضوحاً في الأسبوعين الأخيرين، وهو ما بدأت المواقف السياسية العالمية تشير إليه في ما بدا منها وما خفي من الإعلام وما بدا أيضاً من ردود فعل المسؤولين الإسرائيليين عليه.
تأسيساً على هذه المعطيات، يظهر الانعكاس السلبي لأكثر من 70 يوماً من حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزة على العالم كله. علاقات كيان الاحتلال مع العالم تسوء بصورةٍ متسارعة، حتى وصلت إلى الانفجار إعلامياً مع القيادة الأميركية، التي تمثل أقرب حلفاء الكيان وأكثرهم توافقاً مع أهدافه من الحرب وأولهم مدّاً له بكل أنواع الأسلحة التي يطلبها لقتل المدنيين في غزة ولبنان، وأينما شعر برغبة القتل التي تشكل جزءاً من تكوينه الجيني.
المواقف التي أطلقها الرئيس الأميركي حول ضرورة تغيير الحكومة الإسرائيلية وتأثير حرب الإبادة في الموقف الأخلاقي لبلاده في العالم ودعوته رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو إلى التضحية بنفسه بدلاً من التضحية بـ"إسرائيل" ترسم التصور الأميركي لأقل سيناريوهات نهاية الحرب كلفةً بالنسبة إليه وإلى "تل أبيب"، فالسقوف العالية التي وضها نتنياهو للحرب لن يتم الوصول إليها حتماً. اقتنع البيت الأبيض بذلك بصورةٍ مؤكدة. ما البديل إذاً للحفاظ على الأهداف الممكنة حتى اللحظة، والتي يمكن لواشنطن تسويقها؟
تشير مواقف المسؤولين الأميركيين، كما بايدن، إلى ضرورةِ المسارعة لتشكيل مستقبل غزة الآن تأسيساً على ما تبقى من التعاطف العالمي مع "إسرائيل" تأثراً بالسرديات المبتكرة لأحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وعدم الانتظار حتى تتحول الهزيمة الإسرائيلية إلى فضيحةٍ مدوية للجيش تضع وجود الكيان على المحك، وتمنع القيادة السياسية الإسرائيلية من تقديم ورقة مطالب قابلة للتحقق.
هذا التقدير يقوم على توقع أن ترفع المقاومة سقف مطالبها طرداً مع ارتفاع خسائر القوات الإسرائيلية في الميدان، وتناسباً مع زيادة الضجيج والغضب في مجتمع المستوطنين، والذي يحمل معه كشفاً عن المعطيات الحقيقية للخسائر، فضلاً عن الموقف الحقيقي للمستوطنين من البقاء في الأراضي التي يحتلونها من الفلسطينيين، وإمكانية تسارع ظاهرة الهجرة إلى الخارج بوتيرةٍ دراماتيكية تؤدي إلى تحوّلٍ كبير لا تستطيع "تل أبيب" أو واشنطن السيطرة عليه.
يؤيد هذا المنطق تحول الحرب والمشاهد الناتجة منها إلى حملة تعبئة عالمية متعاظمة ضد كيان الاحتلال، لم يعرفها صاخبةً إلى هذا الحد في تاريخه؛ فإذا كانت محطات العدوان السابقة تتم على نمط الحروب الخاطفة والقتل السريع، ثم التعمية عليه عبر بروباغندا عالمية مساندة، فإن طول الحرب الحالية ومستوى الفظائع غير المسبوقة أمام العالم يؤدي دوراً معاكساً بالغ الأذى لمصالح "إسرائيل" والولايات المتحدة وأي دولةٍ أخرى تدعم العدوان، وهذا ما يبدو الآن على مستوى العالم، وهو بالتحديد ما أشار إليه بايدن حين أبدى خوفه على الموقف الأخلاقي لبلاده أو ما تبقى منه أو رأي من تبقى من المقتنعين به بعد سلسلة الحروب التي خاضتها أميركا في العالم، والتي لا حروب أخرى غيرها تشبه الحرب الإسرائيلية على غزة.
وليس الدول فحسب، إنما طالت آثار للدماء الفلسطينية صورة كل سياسي في الغرب يدعم الاحتلال أو يعارض وقف إطلاق النار في غزة. التصويت الأخير في الأمم المتحدة شهد تأييد 156 دولة في العالم لوقف إطلاق نارٍ إنساني في غزة. الدول التي عارضت هي 10 دولٍ فقط، بينها بالطبع "إسرائيل" والولايات المتحدة وكندا.
هذه هي المرة الثانية في غضون أسابيع قليلة التي تظهر فيها الولايات المتحدة معزولةً بصورةٍ تامة عالمياً، وهي تعلم أنها لم تصل إلى هذه الدرجة من العزلة لموقفٍ يخصها بالدرجة الأولى، بل بسبب وقوفها إلى جانب العدوان الإسرائيلي، الذي يرى كل العالم الآن طبيعته كحرب إبادةٍ وتهجير شاملٍ لأصحاب الأرض.
حملة المقاطعة التي شنتها الشعوب على العمق الحقيقي للنظام العالمي ساهمت أيضاً في تشكيل هذا الوعي العالمي حول طبيعة الحرب الإسرائيلية ومقاصدها.
كبريات الشركات في العالم تعيش موقف بايدن، وتتلقى الخسائر القياسية لوقوفها إلى جانب "إسرائيل". هذه الشركات شكلت في العقود الماضية طبقة فوق الدول ترسم شكل تقاسم الكتلة المالية في العالم، وهي الآن تعاني من انخفاضٍ سريع في قيمتها السوقية وأحجام مبيعاتها.
والأخطر من ذلك أن هذا الانخفاض يترسخ مع استمرار الحرب، الأمر الذي يحثّها على الدفع بتأثيرها المعروف في صناعة القرار في الغرب من أجل وقف إطلاق النار، فتحول المقاطعة من موقف عاطفي مرحلي إلى خيارٍ سياسيٍ دائمٍ لشعوب عالم الجنوب يعني انهيار النظام الاقتصادي الدولي وأركانه من الشركات والمالكين.
انتصار أصحاب القضية الفلسطينية في معركة الوعي له مفاعيل لا يمكن حصرها، وطول مدة الحرب يسرع تفاعلها. هذا أيضاً ما لمسه بايدن والقادة الغربيون الذين يريدون وقف الحرب أكثر منه، لكنهم لا يجرؤون على أن يسبقوه إلى توبيخ "إسرائيل" ونتنياهو مباشرةً.
مواقف بعض الدول الغربية، خصوصاً في إسبانيا وبلجيكا، والتخبط الذي تعيشه فرنسا، تهدد بتفكك الوحدة الغربية حول دعم "إسرائيل"، فهذه الدول لا تستطيع تحمل التناقض الأخلاقي في مواقفها بين ما تعلنه وما تؤيده من ممارسات الاحتلال لمرحلةٍ طويلة.
هذا التناقض يمكن أن يفجّر مجتمعاتها من الداخل، لكونه يستورد الصراع بين الجاليات إلى داخلها، ويضاف إلى تزخيم المشاعر السلبية وزيادة الغضب المتراكم من الأزمات الاقتصادية المتتالية، وفشل السياسات العامة الذي تحول إلى نمطٍ مستدام في الدول الغربية، مع انخفاض جودة رجال السياسة في هذه البلدان التي تخوض في المقلب الآخر موجهاتٍ حربية واقتصادية مع روسيا والصين ودول أخرى، والتي تمتلك أنظمةً سياسيةً مستقرة وجبهاتٍ داخلية أكثر قدرة على التحمل على المدى الطويل.
الآثار الاقتصادية لا تقف عند المقاطعة، بل تمتد إلى أمن خطوط التجارة الدولية وتفاعلات المفاجأة المدوية في هذه الحرب والورقة المدهشة التي لعبها محور في توقيتٍ بالغ الحساسية، وهي تدخل اليمنيين نصرةً لفلسطين، وبصورةٍ لم يسبق لها مثيل من قبل.
جرأة هذه الخطوة وحدّتها تشكلان عنصر الدهشة فيها. لم تكتفِ القوات المسلحة اليمنية بفتح جبهةِ إشغالٍ وتعبيرٍ عن موقف تضامني، بل مسّت بأكثر المجالات تأثيراً بالنسبة إلى الدول المساندة لـ"إسرائيل". وعلى المستوى العالي نفسه من الفاعلية، فتحت المقاومة اللبنانية الطريق إلى القدس، مع إعلان أمينها العام السيد حسن نصر الله عنونة شهادة كل مقاومٍ في هذه الحرب على اسم "الطريق إلى القدس".
قيمة الجبهة اللبنانية مرتفعة جداً، فهي ليست جبهة إشغالٍ، كما يحلو للبعض تسميتها، بل هي الجهة الأكثر استنزافاً للجهد الإسرائيلي، من ناحية الموارد العسكرية والمالية والتجهيز المدني وتوجيه الجبهة الداخلية عند العدو، وهي الجبهة المباشرة الأكثر قدرةً من الناحية العسكرية، والتي تهدد وجود الكيان. وقد زاد من خطرها مشهد السابع من أكتوبر، الذي فتح مساحة الخيال الإسرائيلية على محاولات توقع ما يمكن لحزب الله أن يبتكره في هذه الجبهة.
في المحصلة، يرتسم المشهد مرةً جديدة على صورة النصر الذي وعدت به المقاومة، ومواصلة الصمود في الأيام والأسابيع القليلة المقبلة سوف تكون له مفاعيل كبرى على ميزان القوى في الأراضي المحتلة، وفي المنطقة كلها. لقد تحوّل الوقت لخدمة الفلسطينيين الآن بدلاً من الضغط عليهم، وذلك بفعل الكثير من العوامل، وأولها الصبر.
نور الدين اسكندر ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً