مقالات مختارة
في معادلة "الكلفة مقابل المنجز" التي حكمت "طوفان الأقصى"، تتعالى أصوات فلسطينية وعربية، بين الحين والآخر، مشكّكة في جدوى قرار السابع من أكتوبر، وعاد بعضهم لطرح معادلات رياضية بائسة، لا تليق إلا بالمهزومين من دواخلهم، متدثرين بلبوس إنساني زائف، كأن يقال مثلاً: ما حاجتنا إلى الإفراج عن أربعة آلاف أسير، نظير عشرين ألف شهيد، فضلاً عمّا لحق بقطاع غزة وأهله، من جراح وعذابات وتدمير وتهجير...أو كأن يتساءل أحدهم ساخراً: وماذا إن أعادت "إسرائيل" اعتقال من حررتهم حماس بطوفانها؟
تنتعش هذه الأصوات عندما تشتد وطأة الإجرام الإسرائيلي، وترتفع قوائم الشهداء والمصابين من بين أبناء شعبنا في القطاع، وتعود لتخبو عندما يخرج المقاتلون من فوهات أنفاقهم، لصب جام حممهم على دبابات العدو وجنوده...بقينا على هذه الحال، طوال الأسابيع العشرة الفائتة، لم يكلّوا ولم يملّوا.
يدّعون الحكمة، ولكن بأثر رجعي، ويُمطروننا بوابل من الأسئلة المشككة والتساؤلات المتشككة، عن الطوفان والعدوان، والتداعيات وردود الأفعال، وما إن كانت مقدرة ومتوقعة، أم لا...لكأن الذهاب إلى قلب الموازين مع الاحتلال، وقلب الطاولة فوق رؤوس داعميه، ستكون نزهة قصيرة، خالية من "المغامرة"، أو لكأن العمل الثوري ذاته، خالص من عنصرَي المفاجأة والمغامرة، وهذا ما لم نعهده، لا في تاريخ الحركات التحررية والثورية في العالم، ولا في تجربة حركتنا الوطنية المعاصرة، فلماذا يُطلب من حماس، ما لم نطلبه من أنفسنا من قبل، وما لم نطلبه من غيرنا كذلك؟
لهؤلاء، وغيرهم، سيما الذين انخرطوا في تجربة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، نقول: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا، نستطلع معاً، ما كانت عليه حالنا قبل السابع من أكتوبر، وما صارت عليه...وأدعوهم إلى مغادرة نزعاتهم القبلية والفصائلية وإن لبعض الوقت، علّنا نجري جردة حساب مع "الذات والآخر"، بكل موضوعية، ولا أقول حيادية، فليس للحياد مطرح حين يتعلق الأمر بصراعنا مع عدو تاريخي مدجج بالسلاح والكراهية ومثقل بنزعات الإلغاء والتصفية.
أولاً؛ لم تقل حماس وكتائبها، إن الهدف الرئيس لـ "طوفان الأقصى"، تختصره صفقة تبادل للأسرى، حتى وإن جاء شاملاً، وعلى الرغم من المكانة الاستثنائية لكل أسير وأسيرة في قلب كل عائلة فلسطينية، فإن حماس وضعت هدف "تبييض السجون" ضمن أهداف عمليتها في ذلك اليوم الأغر، بيد أنها أدرجت "الطوفان" في سياق استراتيجي أعمق وأوسع، تناولنا بعض ملامحه في مقالتنا الأخيرة في هذا الموقع، وهي ما زالت منشورة، لمن يرغب في الاستزادة.
ثانياً؛ في ظل حالة التهميش و"الموات" التي عاشتها القضية الفلسطينية خلال السنوات الماضية، وبالذات في ظل حكومة وصفها بايدن نفسه، الفخور بصهيونيته، بأنها الأكثر تطرفاً في تاريخ "إسرائيل"، لم تتنادَ أي من فصائل العمل الوطني الفلسطيني لاجتراح "استراتيجية – مخرج"، من حالة الركود والتآكل التي عاشتها القضية الفلسطينية بمختلف ملفاتها: أرض يبتلعها الاستيطان الزاحف، ومقدسات تدنسها الأقدام الهمجية، وسجون تعج بساكنيها من خيرة الخيرة من أبناء وبنات شعبنا، وبعضهم، لأزيد من أربعة عقود متصلة، حصار محكم على غزة منذ عقدين تقريباً، وسلطة متآكلة في رام الله، لم يبق منها سوى دور "الوكيل الأمني الثانوي"، استباحة للضفة الغربية وأسرلة للقدس وتهويدها، ونظام تمييز عنصري يتجذر في أرضنا المحتلة، ويطال مختلف شرائح شعبنا ومكوّناته، دع عنك بربرية المستوطنين وقطعانهم وميليشياتهم السائبة، التي تعيث تقتيلاً وتحريقاً بشبابنا وممتلكاتنا، من دون أي رادع أو وازع من بقايا "ضمير دولي – إنساني"...مسارات تطبيع إبراهيمية، أوشكت أن تجرف واحدة من أكبر وأهم الدول العربية والإسلامية إليها، تكاد برمزيتها الدينية، أن تكون بوابة للانهيار الشامل في جدران العداء العربي – الإسلامي لكيان غاصب متنمر...ما البدائل والسيناريوهات التي اقترحتها مكونات العمل الوطني، والتي كان بمقدورها أن تعظم "المنجز" وتختصر "الكلفة"؟
ثالثاً؛ لا شيء من ذلك تحقق، وبتنا على شفير مرحلة التكيّف مع مخرجات الحل الإسرائيلي، والرضوخ لإملاءاته المتغطرسة، وعلى قاعدة "الله غالب"، واستمر الممسكون بقرار المؤسسات الرسمية الفلسطينية، يمارسون يومياتهم كالمعتاد، وكأن شيئاً لا يحصل...
لقد أصابهم الموات، حتى ظننا أنهم من "الفتية الذين آووا إلى كهفهم"، وظل القوم يرددون على أسماعنا معزوفاتهم القديمة المشروخة، عن أوسلو والتزاماته، وعن "التنسيق الأمني" المقدس، ويبحثون عن شهادات حسن سيرة وسلوك من العدو قبل الصديق، وظلوا على عهد الوفاء لـ"المفاوضات حياة"، ورفضهم العقائدي للمقاومة.
رابعاً؛ لقد اجتهدت حماس في اقتراح مسار آخر: إلقاء قنبلة كبيرة في مستنقع الركود، واستحداث الانعطافة، وفي ظني، وليس في هذا الظن أي إثم، أنها حققت ما أرادته صبيحة ذاك اليوم، في السابع من أكتوبر، وأخرجت العالم عن صمته وتواطئه، وإعادته إلى جادة التركيز على القضية الفلسطينية، التي لم تعد قضية العرب المركزية الأولى، بل صارت قضية العالم المركزية الأولى، فهل ثمة من "منجز" أهم من هذا المنجز...لقد أسقط "الطوفان" جملة من الرهانات دفعة واحدة، وإلى الأبد: منها رهان أن السلام والتطبيع الإسرائيليين مع العرب، ممكنان من دون حل القضية الفلسطينية، وصفعت نتنياهو بقسوة على خديه، وهو الذي سبق أن تفاخر بإنجاز سلام وتطبيع مع 98% من العرب، وجرّد الـ 2% الباقين (الفلسطينيين) من حق "الفيتو".
لقد صفعت جهود ترامب وبايدن، التي مضت في إعطاء الأولوية للتطبيع على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، وأعادت "تجليس" الهرم على قاعدته بعد أن كان مقلوباً على رأسه، فهل ثمة إنجاز أهم من هذا الإنجاز؟
خامساً؛ عصافير عديدة ضربتها حماس بحجر واحد، من عيار ثقيل.. وضعت قضية الأسرى على سكة التبادل، والفرج بات قريباً وفقاً لمختلف التقديرات...الحصار النازي المضروب على قطاع غزة، بما هو جريمة حرب، قريباً سيكون فصلاً من التاريخ...
أما الجانب الأهم من النتائج، فقد تفتحت عيون العالم، على ممارسات المستوطنين المتطرفين، وباتوا تحت المجهر، وفي مهداف العقوبات التي تهدد دول متزايدة بفرضها على قادتهم، فضلاً عن انهيار دعم أحزابهم وممثليهم، وفقاً لاستطلاعات الرأي العام، وهذا أمر سيفتح الباب لنضالات لاحقة، من أجل وقف الاستيطان ومنع التعديات والانتهاكات على القدس والمسجد الأقصى، وهذا أمر طبيعي.
سادساً؛ بالنسبة إلى المسار أو الأفق السياسي، وبعض منتقدي حماس والحاملين على "الطوفان" والمنتمين إلى مدرسة "الأفق السياسي"، نقول لهؤلاء: حماس هي من مهّد الطريق لفتح هذا الأفق بعد السابع من أكتوبر، وليس كل وسائل الاستجداء والترجي التي اتبعت خلال العقدين الأخيرين من دون جدوى، وإن كان يتعين علينا أن ننسب الفضل إلى أصحابه، فهم وحدهم، من طرح المسألة على بساط البحث الجدي، لأول مرة منذ انسداد أفق التفاوض وعملية السلام، والواجب على هؤلاء يقتضي شكر حماس، وليس التنكر واستنكار ما فعلته كتائب القسام في "الطوفان".
سابعاً؛ تذكروا الابتسامات الساخرة، والشفاه المزمومة، التي كان يقابلنا بها محدّثونا الأميركيون والأوروبيون، ونحن نحذر بأن الجمود سيفضي إلى الانفجار...وأن بقاء الحال من المحال، وتذكروا كلمات نيكي هيلي، سيئة الذكر، عندما سخرت من تحذيرات "انطباق السماء على الأرض" حال نقل السفارة الأميركية من "تل أبيب" إلى القدس، وقالت متشفيّة: فعلناها ولم ينطبق شيء على شيء...السابع من أكتوبر، يوم زلزلت الأرض زلزالها، ويوم انطبقت السماوات على الأرض، وأظهر الفلسطينيون للصديق والعدو، القريب والبعيد، أنهم شعب عصي على الابتلاع والتدجين، وأن الأمر لهم من قبل ومن بعد، وأنهم سادة هذه الأرض وأصحابها، وأن أحداً لن يكون بمقدوره سلبهم الحلم وإرادة المقاومة، وأنهم جديرون بـ "وطن حر كشعب سعيد".
ثامناً؛ حماس ستؤجر مرتين اثنتين، الأولى، لأنها اجتهدت والثانية، لأنها أصابت، فما هو الأجر الذي تنتظرونه، أنتم الذين آثرتم القعود والسكون، وخشيتم الجهاد والاجتهاد، وأبقيتم قضية شعب بأكمله، رهناً بما يرتضيه السيد الأميركي وتابعه المستعمر الصهيوني...
لقد كنا كالضفدع في الماء الموضوعة على النار، تزهق روحه عند غليانه من دون أن يشعر بذلك، فما كان من حماس سوى أن قفزت وشعبها من القدر، قبل أن تزهق ونزهق لحظة غليان الماء في القدر.
المؤسف حقاً، أن بعضنا، عرباً وفلسطينيين، وبدلاً من التفكير العميق في كيفية البناء على المنجز المتحقق في السابع من أكتوبر، وفي صفحات البطولة والصمود التي تسطرها غزة ومقاومتها، نراهم يرهقوننا وأنفسهم، في معادلات رياضية خائبة...يأخذون على حماس "بديلها" و"مقترحها" لكنهم في المقابل، يستنكفون عن تقديم أي بديل أو مقترح آخر.
عريب الرنتاوي ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً