مقالات مختارة
استفقنا في السابع من أكتوبر على بطولات للمقاومة الفلسطينية خلنا إلى زمن غير بعيد أنها من سابع المستحيلات أن تتحقّق أمام الهالة التي تحيط زيفاً بالتفوّق الاستخباري والعسكري لـ "الجيش" الذي يزعمون أنه لا يُقهر، علمنا ساعتها أن المقاومة أطلقت على العملية اسم ''طوفان الأقصى''، ومن الطبيعي أن تحيلنا التسمية إلى محاولة استقراء الدلالات والمعاني، والرسائل الممكنة، أو حتى الأهداف المرسومة من وراء العملية على المدى المنظور والبعيد.
محاولات الاستقراء في بدايات الأحداث لعلّها صعبة خصوصاً وأنّ طبيعة المعركة تقتضي التحكّم في المعلومة وفي الخطاب الإعلامي، بما يمكّن المقاومة من إدارة المعركة الإعلامية باقتدار، أما اليوم فلعل الأحداث هي التي توجّه كل متابع إلى استخلاص المعاني من وقع ما يجري على الأرض وردود الأفعال القريبة والبعيدة، بما يخوّل له أن يرسم قراءة قد تتقاطع مع ما رسمته المقاومة من أهداف أو قد تتجاوزها بكثير.
"طوفان نوح" جاء بعد أن استشرى الفساد والظلم في الأرض
باستدعاء تعريف المعاجم لمصطلح ''طوفان'' نجد أنه يعرف بالفيضان الكبير، أو السيل المغرق، أو ما كان كثيراً أو عظيماً من الأشياء أو الحوادث بحيث يطغى على غيره، ولعلّ التعريف يحيلنا ولو عرضاً على قصص التاريخ التي تقول بأنّ ما يُعرف بـ "طوفان نوح" جاء بعد أن استشرى الفساد والظلم في الأرض.
كلّ الأحداث التي سبقت طوفان الأقصى كانت تشي ربما بأن هيمنة القطب الواحد إلى زوال، وأنّ أميركا بدأت تفقد سطوتها على العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، مقابل صعود قوى جديدة كالصين وروسيا والهند... وبأنّ حليفتها في فلسطين المحتلة تتخبّط في أزمة داخلية تتهدّد أركان الدولة بالتأكّل والانهيار، فيما يعزّز محور المقاومة أو حلف القدس من جاهزيته استعداداً لمعركة يوم القيامة، لمعركة الحسم واسترجاع الأرض المسلوبة.
ديناميكية الأحداث كما يحاول التحكّم فيها ما يعرف بـ "صنّاع القرار في العالم"، وانشغال الغرب بدعم أوكرانيا أمام الدب الروسي، ولهث العرب وراء قطار التطبيع للدخول في شراكة اقتصادية متقدّمة مع "دولة" الاحتلال، كانت كلّها عوامل لا تصبّ في اتجاه تغييب القضية الفلسطينية عن واجهة الأحداث فحسب، بل تتعداه إلى سعي "دولة" الاحتلال وحكومتها اليمينية المتطرّفة إلى تصفية القضية بضوء أخضر من شركائها من الغرب والعرب كما كشفته الأحداث لاحقاً.
"طوفان الأقصى فضح مخططات التطبيع والتهجير لتصفية القضية"
يأتي طوفان الأقصى ليجرف المخططات والمؤامرات عن طريق الحقّ الفلسطيني، وليعرّي مؤامرة التهجير سواء نحو سيناء لأهل غزة أو نحو الأردن لأهل الضفة، وليميط اللثام عن مدى التورّط العربي في مستنقع التطبيع، بما يفقد أي عمل عربي مشترك أي فاعلية، ويحيّده عن تقديم دعم حقيقي للقضية الفلسطينية، ولعلّ خير دليل على ذلك فشل الدعوات إلى عقد قمة عربية طارئة، لتنتظم قمة مشتركة عربية إسلامية ارتفع فيها صوت الخطابات السياسية، وغابت عن مخرجاتها القرارات ذات الصبغة العملية في وقف العدوان، وتقديم الدعم الإنساني.
الطوفان فضح من يقيم الاحتفالات الراقصة وغزة تحت النار، ومن يصافح رئيس "دولة" الاحتلال في قمة المناخ والشعب الفلسطيني يباد بأسلحة محرّمة دولياً. الطوفان جاء ليفضح أيضاً إفلاس المنظومة السياسية الدولية التي تكيل بمكيالين، وتنصب العداء لكل صوت يصدح بالحق ويدعم الشعب الفلسطيني بالتلويح بإمكانية اتهامه بمعاداة السامية.
منظمات حقوقيّة لا تحرّك ساكناً أمام الجرائم ضد الإنسانية
ولا يقف الإفلاس عند مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، بل يتعداه إلى المنظمات الحقوقية الدولية، التي تدّعي أنها تعمل ليلاً ونهاراً للدفاع عن حقوق الإنسان من دون تمييز لأيّ لون أو دين أو عرق، ولا تحرّك ساكناً أمام الجرائم ضد الإنسانية أو جرائم استخدام الأسلحة المحرّمة دولياً، أو أمام جرائم قتل الأطفال والنساء واستهداف بيوت المدنيين بالأسلحة الثقيلة، أو أمام جرائم ضرب الأهداف المحرّمة في الحروب كالمستشفيات والمدارس والصحافيين، وتكتفي بإصدار مواقف بيانات القلق أمام جرائم تجويع الشعب وحرمانه من الغذاء والماء والدواء.
الطوفان عرّى أيضاً السقوط المدوّي واللاأخلاقي للإعلام الغربي والبعض من الإعلام العربي الذي سوّق لأكاذيب لا تمت للواقع بصلة، وجرّم الفعل المقاوم لمن اغتصبت أرضه ومنع من حقّه في الحياة، ليظهر المحتل في دور الضحية، فيما توصف المقاومة بالوحشية والبربرية.
المغالطات السياسية والإعلامية كانت غطاء للمحتل وحلفائه للإمعان في جرائمهم ضد الإنسانية التي ترتكب على المباشر، وأمام أنظار العالم الذي يكتفي بالمتابعة ومنهم من يصادر حقّ الجماهير في الإدانة ويقمع التظاهرات، جرائم يبدو أن المحتل يعمد إلى ارتكابها من دون أي اعتبار لاحتمال ملاحقته أمام محكمة الجنايات الدولية التي كشف بيان المدّعي العام فيها "كريم خان" تمييزاً فاضحاً لفائدة المحتل، وخطاباً مخاتلاً للحقّ الفلسطيني.
"طوفان الأقصى جاء ليزيل الدنس عن طريق تحرير القدس"
لعلّ المقاومة من حيث تدرك أو لا تدرك فضحت من خلال "طوفان الأقصى" كلّ هذا الواقع المرير، لتقول للعالم إنّ طريق القدس معبّدة بالأشواك والخيانات، وأيضاً بالنضالات والتضحيات، وإنّ هذا العدو والمنظومة التي تحميه سياسياً وقانونياً وإعلامياً وحقوقياً سيجرفها طوفان المقاومة، الذي جاء ليزيل كلّ دنس عن طريق تحرير القدس، ويعيد المستعمرين إلى شتاتهم، ليقيم الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، هدف قد يبدو للمشكّكين صعب المنال، ونراه حقيقة قريبة لا محالة.
يتجلّى ذلك حينما نقف على مسار تطوّر النضال الفلسطيني من ثورة الحجارة، إلى ثورة السكاكين، ليصل الفعل المقاوم إلى رشقات صاروخية وطائرات مسيّرة وقتال بطولي على الأرض باستهداف مدرّعات العدو من المسافة صفر، وليتسع محور المقاومة ليشمل حلف القدس ويصل مداه إلى لبنان واليمن والعراق وسوريا وإيران، في انتظار كلّ من يريد أن يلتحق بركب معركة الدفاع عن الإنسانية في أجلّ معانيها.
عماد شطارة ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً