مقالات مختارة
قبل يوم من انتهاء الهدنة؛ وجد نتنياهو نفسه أمام خيارين أحلاهما مر. الأول إرضاء الرأي العام الدولي الرافض للمجازر ولاستمرار الحرب، والثاني إرضاء الرأي العام الصهيوني الداخلي الضاغط باتجاه استئناف جولات القتال وصولًا إلى "إسقاط حكم حماس" في غزة. ويبدو أنه قد اختار إرضاء الرأي العام الداخلي، على أن تتولى الولايات المتحدة مهمة تبرئة ساحته، أو بالحد الأدنى دفع الضغوطات الدولية التي يتعرض لها.
إن زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الأخيرة إلى الأراضي المحتلة ومشاركته في اجتماع الكابينت الإسرائيلي، وما أعقبها من استئناف لجولات القتال في اليوم التالي، لا يمكن أن يُفسر برأينا إلا على أنه ضوء أخضر أميركي حمله بلينكن إلى نتنياهو، أذِن له بموجبه، باستئناف العدوان وصولًا إلى تحسين شروط التفاوض حول ملف الأسرى مع حركة المقاومة حماس.
لقد سبقت زيارة بلينكن إلى الأراضي المحتلة زيارة قام بها مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) وليام بيرنز إلى قطر، الثلاثاء المنصرم، التقى فيها ممثلين عن المخابرات الإسرائيلية ورئيس الوزراء القطري، سعى بيرنز من خلالها إلى إنضاج طبخة تبادل الأسرى، ولكن يبدو أن جهوده باءت بالفشل بسبب إصرار حماس على عدم تقديم أي تنازل جوهري في هذا الملف، الأمر الذي حدا بإدارة بايدن إلى منح الضوء الأخضر لنتنياهو لاستئناف جولات القتال.
إذًا، عملت الولايات المتحدة على منحيين: المنحى الدبلوماسي التفاوضي عبر بيرنز، والمنحى العسكري عبر الضوء الأخضر الذي حمله بلينكن إلى الكابينت. ما يعني في المحصلة أن قرار الحرب والسلم أميركي، كما كنا نردد دائمًا، وليس بوسع "إسرائيل" أن ترفض ما تمليه الولايات المتحدة، وذلك بخلاف ما يروّج له بعض المحللين من أن أميركا تجنح للسلم، فيما ترفض "إسرائيل" الانصياع لها.
في بيانها أول من أمس، رأت حركة "حماس" أن استئناف العدوان على غزة لم يكن لدواعٍ خلافية حول ملف تبادل الأسرى كما زعم نتنياهو ــ فقد سبق للأخير أن قال إن رفض حماس للإفراج عن جميع النساء المحتجزات لديها، إضافة إلى إطلاق عدد من الصواريخ على الأراضي المحتلة هما ما دفعا جيش العدو الإسرائيلي لاستئناف العمليات العسكرية في غزة ــ وإنما لرغبة مبيتة لديه شخصيًا. فنتنياهو -وفقًا لبيان "حماس"- كان يبيت قرارًا مسبقًا بهذا الخصوص، وما تذرُّعه بملف مفاوضات الأسرى إلا لذر الرماد في العيون.
وفي الحقيقة، إن قرار نتنياهو باستئناف العدوان على غزة يختزل ثلاث رغبات، لا رغبة واحدة:
أ_ رغبته الشخصية، فالرجل يشعر بأنّ مستقبله السياسي على المحك، جراء ما حدث في ٧ تشرين الأول، وبالتالي فهو مضطر لاستكمال الحرب التي بدأها في ٨ تشرين الأول، عسى أن يثبت للرأي العام الداخلي أنه رجل المرحلة، وأنه قادر على ردّ الصاع صاعين لـ"حماس" والجهات الداعمة لها؛ بحسب توهّمه.
بـ_ رغبة بعض الأفرقاء داخل الإدارة الأميركية، وعلى رأسهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي يعتقد طيف واسع من المراقبين أنه أحد صقور إدارة بايدن المتحمسين لفكرة القضاء على "حماس"، وتحويل غزة إلى منطقة خاضعة لإشراف الأمم المتحدة، أو بالحد الأدنى إقامة منطقة عازلة في شمال القطاع ووسطه.
جـ_ رغبة بعض أصحاب الرؤوس الحامية داخل حكومة العدو، وفي مقدمتهم غالانت الذي صرح قبل انتهاء الهدنة الأولى أنه بصدد الانسحاب من الحكومة والانقلاب على نتنياهو في حال قرر الأخير وقف عدوانه على غزة.
وبالرغم من التناغم داخل إدارة بايدن، فإنّ هناك من المراقبين من يعتقد بوجود تباين أو انقسام بين أقطاب الإدارة الأميركية، حيث يميز هؤلاء بين موقف بلينكن المشجع على استكمال الحرب حتى النهاية، وبين موقف وليام بيرنز الذي يخشى من جرّ الولايات المتحدة إلى صراع مباشر مع إيران وحزب الله.
والحق يقال في هذا السياق، إن هناك بعض الأفرقاء داخل حكومة نتنياهو يسعون بكل ما أوتوا من قوة لإطالة أمد الحرب، على أمل أن يوسّع حزب الله من دائرة رده على الجبهة الشمالية، فتتورط الولايات المتحدة على إثر ذلك، وتدخل مباشرة على خط المواجهة. ذلك أن هناك رأيًا سائدًا في أوساط المراقبين يقول إن انخراط حزب الله التام في المعركة سيدفع الولايات المتحدة إلى الانخراط التام، ما قد يزيد من فرص المواجهة الكبرى بين إيران والولايات، وهو عين ما يصبو إليه نتنياهو وبعض صقور حكومته من اليمين الصهيوني المتطرف.
في مقالة له نشرتها صحيفة نيويورك تايمز، رأى الكاتب الأميركي توماس فريدمان أن من شأن الجنون الإسرائيلي في غزة أن يزيد من نقمة المجتمع الدولي على "إسرائيل"، وهو ما يضعف موقف الإدارة الأميركية ويجعلها عاجزة عن تبرير ممارسات حكومة نتنياهو الخرقاء؛ حيث لم يخفِ الكاتب الأميركي خشيته من أن تؤدي ممارسات حكومة نتنياهو التي يغذيها "الغضب الأعمى"- وفقًا لتعبيره- إلى تخبط الأخيرة في وحول غزة.
ويعتقد بعض المراقبين، ومن بينهم فريدمان، أن تصاعد وتيرة الاحتجاجات الداخلية في الولايات المتحدة، إضافة إلى تعالي بعض الأصوات الأوروبية المنددة بجرائم "إسرائيل" في حق أهالي غزة، قد دفعا بايدن إلى ممارسة شيء من الضغط على حكومة نتنياهو بغية التروّي في استهداف المدنيين وقصف البنية التحتية.
وبالمقابل، يرى مراقبون آخرون أن مثل هذه الضغوطات لا يمكن أن تؤثر على رأي بايدن البتة، فدعم "إسرائيل" أهم من أي أمر آخر عند الرجل، وما تردُّد إدارته في الدفع نحو مزيد من التأزيم وتصعيد الموقف في غزة، إلا بسبب خشية فريق واسع داخل إدارته- وفي مقدمتهم وليام بيرنز كما ذكرنا- وربما وزير الحرب لويد أوستن أيضًا، من تطور الأمور في المنطقة نحو حرب إقليمية، قد تجر الولايات المتحدة نحو حرب كبرى غير محسوبة النتائج.
غاية القول، إن استئناف القتال كان بضوء أخضر أميركي وبقرار إسرائيلي مبيّت للأسباب التي أتينا على ذكرها، ولا علاقة لملف الأسرى بالأمر، وهو ما أكده القيادي في حركة "حماس" صالح العاروري في مقابلته الأخيرة على قناة "الجزيرة".
د. علي أكرم زعيتر ـ العهد
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً