مقالات مختارة
لم يكن كيسنجر نفسه يتوقع مستقبله في اللحظة التي هاجر فيها مع عائلته عام 1938 متوجهاً من ألمانيا إلى الولايات المتحدة. عند الوصول إلى تجمعات اللاجئين في منهاتن، لم تكن طموحات والده تتجاوز إلحاقه بأحد مصانع الفراء للعمل فيها وجني القليل من المال.
الهجرة وإجادة اللغة الألمانية فتحتا الطريق أمام كيسنجر للالتحاق بأدوار عسكرية واستخبارية بعد الحرب العالمية الثانية، في سياق مهمات "القضاء على النازية". لم تكن هذه المحطة تكفي لإشباع نهم المهاجر الطموح، ففي بداية الخمسينيات كان كيسنجر يُنهي الخطوات الأولى في مساره الأكاديمي في جامعة هارفرد، ويدرس بعناية الأدبيات السياسية التي يمكن توظيفها خارج جدران الغرف الصفّية، وتحديداً في أروقة صنع القرار، كمستشار للأمن القومي الأميركي (1969- 1975)، ووزير للخارجية (1973-1977).
إذا كان كيسنجر عاش عصره السياسي الذهبي مع الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، فلم يكن المستشار المفضّل لدى جيمي كارتر، الذي كانت آراء بريجينسكي تلائمه أكثر. ومع ذلك، قرّر كيسنجر متابعة الاستشارات الاستراتيجية عبر مؤسسة خاصة به. لا شيء في الولايات المتحدة يمنع أن تكون في مركز القرار من موقعك كمدير تنفيذي لشركة خاصة، حتى لو كان ذلك متعلقاً بميدان السياسة، ففي نهاية الأمر، من يتحكم في طباعة الدولار في أميركا مؤسسة خاصة، وكذلك الإنتاج العسكري للأسلحة، والبحث العلمي، وإدارة بيانات الاستخبارات.
ولأنّ اسم كيسنجر ارتبط بالنصائح المنقذة لـ"إسرائيل" في حرب أكتوبر 73، وهو ابن الأعوام الـ50، فليس من السهل أن نعرف إذا كان كيسنجر مصدراً لنصائح مشابهة في ملحمة أكتوبر 2023، وهو ابن الأعوام الـ100، وفي طريقه إلى نهاية الرحلة. في كل الأحوال، هل ما زالت تلك النصائح تعمل بفعالية؟
1. شراء الوقت واختيار اللحظة: بعد العشاء في قصر الإليزيه، يسأل ديغول كيسنجر "لماذا لا تنسحبون من فيتنام؟". يجيب كيسنجر بأن الانسحاب الآن يهدد مصالحنا بالخطر. لم يكن كيسنجر من السياسيين الجامدين لقبول فكرة أو رفضها، لكنه كان متصلّباً دائماً بشأن التوقيت واختيار اللحظة.
عن حرب أكتوبر 73 يقول "كان علينا كسب الوقت. مع تقديرنا أن المستقبل إلى جانبنا، فإن الخيارات الأميركية متعددة، لكن بعد أن تكون إسرائيل أتمّت تعبئتها". إذا كان كيسنجر اشترى كثيراً من الوقت لإعادة التوازن الميداني في الحرب لمصلحة "إسرائيل"، ورفض مشروع قرار وقف إطلاق النار من جانب السوفيات، وعلى امتداد الوقت كان الجسر الجوي الأميركي يمدّ "إسرائيل" بالسلاح والطائرات، فإن ما جرى في أكتوبر 2023 سار في السكّة نفسها، وإن تم تنفيذه من خلال شخصيات أقل احترافاً ودهاءً (الثنائي بلينكن-بايدن).
فنظير الجسر الجوي حدثَ، وأمدّت الولايات المتحدة "إسرائيل" بالسلاح، وأعادت إعمار مخازنها بالسلاح والقذائف، ورفضت مشروع قرار وقف إطلاق النار الروسي، واشترت مزيداً من الوقت عبر استخدام عبارات "التمويه القيمي" والطلب إلى "إسرائيل" مراعاة الجانب الإنساني.
إذا كان كيسنجر وجد نهاية ممكنة لحرب أكتوبر 73، وَفْقَ نتيجة مرضية إسرائيلياً وأميركياً، إلا أن هذه النهاية لا تبدو ممكنة في حالة الحرب الدائرة اليوم، على الرغم من شراء كثير من الوقت، الذي حمل ارتقاء آلاف الشهداء وانهيار آلاف المباني.
2. التجزئة والتفكيك: آمن كيسنجر بالتجزئة والتفكيك على مستويات متعددة: ميدانية عسكرية، ودبلوماسية تفاوضية. التفكيك والتجزئة لا يعنيان فقط الكيانات السياسية وأطراف التفاوض، وإنما يشملان أيضاً تفكيك القضايا والملفات وتجزئتها. ومن ذلك:
· توقعه عام 1961 حدوث قطع علاقات بين الصين والسوفيات، وضرورة الاستفادة من الأمر في حال تحول التوقع إلى حقيقة، وهو ما تكرّس لاحقاً في زيارة نيكسون للصين.
· العمل على فصل الوفد المصري عن الوفد السوري في أي عملية تفاوض. فوجود الوفدين معاً قد يُحرج أي طرف راغب في تقديم تنازلات (الوفد المصري في هذه الحالة).
لو أسقطنا نصيحة كيسنجر على واقع الحرب الدائرة اليوم، فـ:
· من الصعب إحداث ثغرة في جدار التحالف الصيني الروسي، الذي تعلم من تجربة الخرق الذي أحدثه كيسنجر بين السوفيات والصينيين. ينعكس هذا الثبات في التحالف بإيجابية على الملفات المشتعلة الثلاثة: أوكرانيا وتايوان وفلسطين.
· فصل الجهات المعنية فلسطينياً في التفاوض لا يعمل، بل على العكس تقرّر الفصائل الفلسطينية اختيار اللحظة التي تلائمها هي للتفاوض بصورة منفردو، الأمر الذي ينعكس إيجاباً على المصلحة الفلسطينية.
· لو كان كيسنجر فاعلاً في الساحة السياسية اليوم، فلن يتمكن من نسخ دبلوماسية التفاوض نفسها، فالوساطة مع أطراف المحور القائمة اليوم (حزب الله، القوات المسلحة اليمنية، المقاومة الإسلامية في العراق، فصائل المقاومة الفلسطينية) في حاجة إلى منطق خاص. إنها ببساطة مصفوفة من طينة متباينة عن منظومات المواجهة التقليدية السابقة.
3. خطوة – خطوة: راهن كيسنجر على النجاح الذي حققه في الجبهة المصرية مع السادات، وصنع منطقاً جديداً للسياسة الأميركية: لا داعي لانتظار "السلام الشامل"، ورحلة الوصول إليه ممكنة عبر سياسة "خطوة – خطوة".
لم يكن منطق "خطوة – خطوة" ميدانياً فقط (فصل المقاتلين، إعادة الأسرى، إنشاء مناطق منزوعة السلاح، إنشاء محطات إنذار أميركية، انسحاب)، وإنما كان أيضاً سياسياً. نبدأ بمصر: تدخُّلٌ في علاقات المصالح؛ تصبح العودة إلى الصراع أعلى تكلفة... إلخ. ربما لو سُئل كسنجر عن هذه الفلسفة بالتحديد، لاعتراه الارتباك. انتهت الـ "خطوة – خطوة" كفرضية في عقد السبعينيات. عاد كارتر بقوة إلى منطق إنجاز المهمات الدبلوماسية، "السلام الشامل"، مرة واحدة وإلى الأبد، وحاول ترامب حل قضايا الصراع عبر الضربة القاضية: "صفقة القرن". والأهم من هذا كله، أن المقاومة تبدو عصية على المنطقين: "خطوة – خطوة" المريبة، والصفقة الشاملة المرفوضة.
مات كيسنجر، وشاءت المصادفة التاريخية أن يحدث ذلك، وحرب منذ أكتوبر تدور، في التاريخ نفسه، وللسبب نفسه، لكن مع نهاية هذه الحرب، وبمراجعة متأنية لمنطقه السياسي: "لقد قدّم الرجل فلسفة سياسية تستحق القراءة، منها ما بات مكشوفاً، ومنها ما لم يعد يعمل!".
محمد فرج ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً