مقالات مختارة
– يستطيع أيّ قارئ متحرّر من عقل الهزيمة والتطلع بروح العبودية نحو المشيئة الأميركية أن يقرأ الخط البياني لقوس القوة الأميركية كعنوان لقوة الغرب الجماعي، والخط البياني لقوس القدرة الإسرائيلية، خلال ثلاثين عاماً وأن يشهد بصورة لا لبس فيها أن خط الصعود الذي عرفه الغرب وكيان الاحتلال بين عامي 1990 و2000، دخل في انحدار واضح ومتسارع ما بين عامي 2000 و2023، وأن الأميركي والإسرائيلي في حال عجز عن تحقيق أي إنجاز سياسي او عسكري أو اقتصادي خلال 23 سنة، ما استدعى الاستعانة بإشهار علاقات التطبيع السريّة بين «إسرائيل» وعدد من دول الخليج، بحثاً عن إنجاز صوري. وخلال هذه الأعوام خسرت أميركا أهم حربين خاضتهما مع صعود المحافظين الجدد والعودة إلى الحروب، وهما حرب أفغانستان وحرب العراق، وخسرت أكبر وأضخم حرب سرية صممتها وقادتها من خلال مشروع الفوضى البناءة عبر الربيع العربي، ومشروع العثمانية الجديدة، ونقل السلطة من الجيوش إلى الإخوان المسلمين. وكانت الخسارة الاستراتيجية الأهم في سورية، حيث صارت روسيا وإيران بسبب هذه الحرب على المتوسط وعلى حدود فلسطين المحتلة، شريكتين في كل أزمات المنطقة، وصارت روسيا شريك السعودية النفطي الأول في رسم الأسعار والكميات، وصارت الصين الراعي العلني للتفاهم السعودي الإيراني، وصارت تركيا شريكاً في مسار أستانة في سورية لروسيا وإيران بعدما كانت قاعدة الحرب الأميركية على سورية.
– حال كيان الاحتلال كان أسوأ من حال أميركا، فقد خسر كل حروبه منذ انسحابها من جنوب لبنان عام 2000، وكانت حرب تموز 2006 ومعركة سيف القدس في فلسطين علامتين بارزتين في هذا السياق، ودخلت في مأزق تفكك قدرة الدرع والعجز عن خوض الحروب، ثم التفكك السياسي الداخلي بسبب تراجع القوة، وشهدت أزمات سياسية خانقة على هذه الخلفية، كان أبرزها خمس انتخابات تفشل في تشكيل حكومة، وتظاهرات مليونية في شوارع القدس وتل أبيب احتجاجاً على التعديلات القانونية للنظام القضائي الذي انقسم حوله مجتمع الاستيطان. وصار الحديث عن خطر الحرب الأهلية وخطر الزوال مترادفين، وولد جيل المقاتلين من مواليد ما بعد عام 2000، من الذين لم يعرفوا انتصاراً واحداً ولم يشهدوا إلا الهزائم.
– مقابل هذا القوس الهابط لأميركا صعدت قوى دولية تقاسمها النفوذ والحضور، وفي مقدّمتها روسيا والصين، وفي مقابل القوس الهابط لكيان الاحتلال صعود لقوى المقاومة ومقدراتها، وجاءت عملية طوفان الأقصى في هذا السياق، حيث إيران قوة صاعدة وقد فككت أزماتها مع الجوار وفي طليعته السعودية، وانطفأت نار الفتن المذهبية. وسورية التي لا زالت تعاني آثار الاحتلال والإرهاب والحصار، لم يعد ثمة أمل لدى أميركا و»إسرائيل» بإسقاطها ولا بتقسيمها. والمقاومة لم تعد مجموعة فصائل، بل صارت محوراً متكامل القدرات من العراق إلى لبنان وفلسطين وصولاً الى اليمن، وقد بنت جيشاً يملك القدرة على الزج بربع مليون مقاتل هم أقل من نصف إجمالي قواته، في أيّ حرب يقرر خوضها، وباتت لديه أنواع وكميات من الأسلحة النوعية بما يكفي لتحقيق التفوق الاستراتيجي على أي قوة منافسة أو معادية في المنطقة. وجاءت عملية طوفان الأقصى لتعلن عملياً انتقال زمام المبادرة بشن الحروب من الضفة الأميركية الإسرائيلية إلى ضفة قوى المقاومة، التي خاضت حرب غزة لخمسين يوماً وحققت خلالها ما كان كافياً لإقناع أميركا بعدم جدوى الرهان على المضي قدماً بالحرب، وعدم واقعية الحديث عن الردع، والحاجة للإقرار بأن الشرق الأوسط أولوية لا تلغيها شعوذات سوليفان وبلينكن، وبأن ميزان القوى قد تغيّر فيه، وأن لا استقرار في هذه المنطقة الإستراتيجية من العالم ما لم يتم احترام حقائق التاريخ والجغرافيا.
– مهما كان المرء راغباً بالواقعية السياسية، فهذا يمكن أن يدفعه لتقديم مبادرات تكتيكيّة تراعي وقائع اللحظة في سياق يتطوّر باستمرار، لكن لا يمكنه ادعاء أن الصيغ التكتيكية تستطيع إخفاء حقيقة، أن عبثاً تخريبياً قد لحق بتاريخ وجغرافيا المنطقة مطلع القرن الماضي. وهو عبث فرضته موازين القوى، ولا يمكن مقاومة المسار الطبيعي لتصحيح الخلل الذي نجم عنه. فقد ثبت خلال قرن أن عزل الكيانات المولودة من اتفاقيات سايكس بيكو التي قسمت المنطقة، تسبّب بحروب وأزمات واختناقات اقتصادية، ما يجعل رد الاعتبار لوحدة كيانات المشرق ولو عبر صيغ مبتكرة تأخذ بالاعتبار خصوصياتها الناشئة خلال قرن مضى، لكنها تضمن حماية مصالحها المشتركة والمترابطة في الأمن والاقتصاد، وتشكل منها كتلة إقليمية وازنة، كما ثبت خلال هذا القرن أن البصقة التاريخية على الجغرافيا التي تمثلت بوعد بلفور بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، لا بد من أن تزال، سواء تم ذلك بحرب شاملة تتدحرج نحو المنطقة، لو عبر جولات من حروب منخفضة الوتيرة يتفكك خلالها الكيان، أو عبر نصف تسوية بنصف حرب تنتهي برحيل المستوطنين وعودة الفلسطينيين إلى ديارهم.
– الشرق الأوسط في 2030 لا يبدو أن فيه ثمة مكاناً لمخرجات سايكس بيكو ووعد بلفور.
ناصر قنديل ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً