أقلام الثبات
جاءت زيارة نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى؛ الشيخ علي الخطيب، الى بكركي منذ أيام، محمودة ومُقدَّرة، لتبديد غيمة مزعجة في توقيتها، تسببت بها دعوة "لمّ الصينية".
قد يكون سوء الفهم لتقاليد بعضنا كشرائح دينية واجتماعية في لبنان هو الذي يؤدي دائماً لسوء التفاهم، لدرجة أن دعوة البطريريك الراعي المسيحيين الى "لمّ الصينية" خلال القداديس لدعم إخوة لنا قد ينزحون من القرى الجنوبية، صوَّرت للبعض وكأن النازحين لا سمح الله "شحَّادين"، وأنهم بحاجة إلى "لمَّة"!
انتفض الكثيرون على وسائل التواصل الاجتماعي، دون قصد الإساءة للتقاليد الدينية والاجتماعية، لكنهم ربما لا يدركون أن أنبل ما في "لمّ الصينية" أو وضع "صندوق النذورات" لدى المسيحيين، وصناديق الزكاة لدى المسلمين، أن لا أحد يعرف مَن وضع المال، وكم وضع من المال، حتى لو كان فلس أرملة، وأن الغاية كل الغاية تندرج تحت مسمى "مساعدة العائلات المستورة"، ولسنا نعتقد أن هناك رسالة أقدس وأطهر وأعظم من التعاضد الاجتماعي "المستور"، في زمن بات الشعب اللبناني بكافة طوائفه غير مستور على المستوى المادي، وتبقى مسألة لمّ الصينية أو صناديق الزكاة وتوزيع الإيرادات بطريقة مستترة وبأسلوب يحترم الكرامات، أشرف من ارتماء الكثيرين من شعبنا الكريم على أبواب ال NGO's.
مشهديتان كنت شاهداً عليهما في قريتي البقاعية:
الأولى: أن سيدة فاضلة رحمها الله، كانت تتولى لمّ الصينية في قداس يوم الأحد، وصادف أن طفلاً كان يضع ربع ليرة في الصينية وسقطت وتدحرجت على الأرض تحت المقاعد، فركعت هذه السيدة على الأرض وراحت تبحث عنها وقالت لي: "هذا مال وقف يا ابني.. وحرام يضيع قرش ".
ومال الوقف مقدَّس، لأنه من تعب المؤمنين، سواء كان من لمّ الصينية أو من صندوق زكاة، وبارك الله بكل من يؤتمن على مال الوقف، خصوصاً عندما يخصص للمساعدات الاجتماعية والإنسانية في قرى تفتقر ربما لمؤسسات أهلية ورعائية، وكل مال عام هو مال وقف، وكل مال للغير هو مال وقف، ولا يجوز لنا نسيان تربيتنا، وأن نأخذ ما يحصل في الدولة ومؤسساتها من نهب مثالاً لحياتنا المشتركة.
المشهدية الثانية، هي من قريتي أيضاً، وتتعلق بأوضاع إخوة نزحوا من بلدة مجاورة لنا خلال عدوان تموز 2006، بضع عائلات من عجزة ونساء وأطفال، واستضفناهم في صالة الكنيسة، وعندما عرضنا عليهم ما يتوجب القيام به، أجابوا حرفياً: "لا نحتاج سوى سلامة قلوبكم الطيبة وهذا السقف، والمقاومة قد أمَّنت لنا كل لوازم الطعام والشراب والفُرش والأغطية".
وبعد، في غمرة ما نعيشه في لبنان والمنطقة، منذ بدء "طوفان الأقصى"، الذي سيغدو تسونامي القرن على عدو حاقدٍ مجرم، وبالنظر للدور المحوري للمقاومة في لبنان في استحقاق سحق هذا العدو، وفق وسائل المواجهة التي تراها القيادة الحكيمة لهذه المقاومة مناسبة، فليس مطلوباً من اللبنانيين بغياب الدولة ومؤسساتها سوى التعاضد الاجتماعي على الأقل؛ كلٌّ لخدمة بيئته، وبيئة الآخر أيضاً متى دعت الحاجة، ولولا صناديق التعاضد والمؤسسات الأهلية والخيرية على اختلافها في لبنان، لما استطعنا الاستمرار في إعانة أنفسنا على مدى نصف قرن من العيش في بقايا دولة..