ناصر قنديل
– يكفي لمعرفة حصيلة الجولة الأولى من الحرب التي شنتها قوات الاحتلال على غزة، سماع تعليقات المعنيين بهذه الحصيلة، وهم بصورة رئيسية أهل غزة الذين دُمّرت بيوتهم وقُتلت عائلاتهم وحُرموا من أبسط مقوّمات الحياة، من جهة، ومن جهة مقابلة الأسيرات المحرّرات في عملية التبادل الأولى، واللاتي حُرمن من فرح الحياة والحرية بين شهور وسنوات. وقد راهن الاحتلال على القهر والظلم والترويع والتهديد لتحقيق مفهوم الردع، فيظهر أهالي غزة في حال ذعر، يهربون من كاميرات الصحافيين وميكروفونات الإعلاميين، يخفون وجوههم. إن تحدّثوا قالوا كلاماً بلا معنى، مثل لعن الله الحروب والعداوات، والدعاء لقرب نهاية المأساة، وعن حبّ الحياة والسلام، وتفادي أي إشارة للمقاومة. وبالتوازي أن تتحدّث الأسيرات عن أن الوقت الآن ليس للسياسة لأن الأولوية للاطمئنان على الأهل والعائلة، والتذرّع بالتعب للتهرّب من الكلام، وإن حدث وتكلمت إحداهن فتقول إن البشرية يجب أن تنتهي من الحروب وأن تبحث عن السلام.
– في الواقع لم يحدث شيء من هذا، ولم نسمع شيئاً من هذا. فقد رأينا أهل غزة الذين أراد منهم الاحتلال أن ينزحوا جنوباً يتجهون شمالاً بالآلاف غير عابئين بمنع الاحتلال ورصاص جنوده وقنابلهم الدخانية، ويفتشون عن الإعلاميين والصحافيين ويقصدون الكاميرات للتحدّث، وإظهار حجم التعلق بالأرض والوطن والهوية، والاستعداد لتحمل التضحيات حتى تحقيق التحرير، وإعلان الولاء للمقاومة والثقة بها. والتأكيد أن لا هجرة عن الأرض ولا عن البيوت ولو كانت الكلفة هي الاستشهاد تحت الركام، ثم رأينا ليلاً الأسيرات مفعمات بالمعنويات المرتفعة، تتدفق كل منهن بالتحدث عن دَيْن في الأعناق لشهداء غزة ومقاومتها وعن التزام بمواصلة المسيرة حتى تتحرّر الأرض، وسمعنا الثبات والقوة والوضوح. وفي الحالتين الكلام الواضح عن إجرام كيان الاحتلال وجيشه ودعوة العرب والعالم لنصرة فلسطين وشعبها ومقاومتها.
– في داخل الكيان تضجّ الصحف والمنصات بالأسئلة عن مبرر الحرب ما دام طريق تحرير الأسرى يمرّ بالتبادل، ويسألون عن موعد إعلان انتصار المقاومة التي نجحت بفرض شروطها، وسخرية من غيبوبة الرئيس الأميركي جو بايدن عن نهاية حماس، ومن شيزوفرينيا بنيامين نتنياهو عن إنهاء حماس والتفاوض معها لضمان الإفراج عن الرهائن. والسؤال الموازي عن الجهة الواقعة تحت تأثير الردع، «إسرائيل» أم حزب الله في ضوء ما يجري على جبهة الشمال، وأميركا أم محور المقاومة، وأنصار الله ضمناً، في ضوء ما يجري في البحر الأحمر؟
– هذا ليس إلا اليوم الأول، وسوف تليه أيام وتمدّد الهدنة لمزيد من التبادل، وقد بات طريقاً وحيداً للإفراج عن الرهائن، ومَن يجرؤ على التوقف والقول إن هناك رهائن يستحقون التبادل وآخرين لا يستحقون؟ وسوف يفرج عن غير العسكريين ويبدأ التفاوض على العسكريين، ويتعثر مراراً أمام الأسرى الفلسطينيين القادة الذين يمثلون عقدة العقد، ومقابلهم سوف تحتفظ المقاومة بالصيد الثمين الذي تملكه من الأسرى العسكريين من الرتب العالية، لكن في النهاية سوف يتواصل التبادل لشهور تنتهي بخروج جميع الرهائن وجميع الأسرى، وفي كل محطة سوف يرتفع منسوب ما رأيناه وما سمعناه من شعب غزة ومن الأسرى المحررين، ومقابله يرتفع منسوب الإحباط والخيبة والشعور بالفشل في داخل الكيان.
– الكيان العالق بين حرب يحتاج المضي في خوضها وقد بات على يقين من استحالة الفوز بنتيجتها، ولكنه بالمقابل لا يجرؤ على إعلان وقفها وهو يدرك أن في ذلك هزيمة محققة، هو الكيان ذاته العالق بين مزاعم القوة والغلو والتغطرس، وبين حقائق الضعف والعجز والفشل. وهذا ليس إلا اليوم الأول بعد الجولة الأولى، وهي ليست إلا جولة أولى، وقد بات يقيناً أن ما رأيناه عن جيش الاحتلال يوم طوفان الأقصى في غلاف غزة هو الصورة الحقيقية لجيش الاحتلال وكيان الاحتلال، صورة سوف تتظهّر أكثر مع كل يوم وكل جولة.
دائماً ألسنة الخلق أقلام الحق.
ناصر قنديل ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً