مقالات مختارة
بعد 46 يوماً من الصمود والمقاومة والبسالة في القتال أمام جيش محتل يجيد القتل ولا يجيد القتال، أدرك الاحتلال الإسرائيلي أنه في ورطة، وأن حركة حماس التي خططت لعملية "طوفان الأقصى" وأعدّت نفسها لمعركة طويلة تستطيع إرباك حسابات "إسرائيل" السياسية، كما أربكت حساباتها الاستخباراتية والعسكرية يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وإخضاعها لشروطها ومطالبها بالدخول في مفاوضات صفقة تبادل الأسرى في مقابل الإفراج عن عدد من الأسرى والأسيرات من الأطفال والنساء وفتح المعابر وإدخال الوقود والمساعدات الإنسانية الأخرى.
بدأت "إسرائيل" تنزل عن الشجرة بعدما فشلت لأكثر من شهر ونصف شهر في حرب طاحنة جوية وبرية شنتها على قطاع غزة، وأدركت أن طائراتها ودباباتها لن تعيد لها أسراها باستخدام القوة العسكرية أو حتى بالقضاء على حركة حماس وإنهاء حكمها في قطاع غزة كهدفين رئيسيين معلنين، وليس أمامها إلا طريق واحد هو خوض مفاوضات وصفقة تبادل أولية متكافئة، وهذا يعد انكساراً واضحاً لإستراتيجيتها في حربها المعلنة ضد قطاع غزة.
ثمة عوامل ضاغطة شكّلت مرتكزاً أساسياً وساعدت في الدفع لإنجاز صفقة تبادل كمرحلة أولى، وهي بالتأكيد ستكون مقدمة لصفقات أخرى، سواء كانت جزئية أو شاملة، تتمثل بالضغوط الكبيرة التي مارستها الجبهة الداخلية الإسرائيلية طيلة أيام الحرب، والتي كانت وما زالت تئن تحت وطأة أزمتين أمنية واقتصادية غير مسبوقتين، والحراك الشعبي الإسرائيلي الكبير، وتعالي أصوات أهالي الأسرى، وانعدام الثقة بحكومة نتنياهو، سيما بحتمية عودة الأسرى أحياء من جراء مقتل عدد منهم خلال الغارات الجوية على قطاع غزة خلال الحرب، وتيقن عائلاتهم أن أولويات جيش الاحتلال ليست إنقاذ حياتهم، إنما شن حرب عسكرية انتقامية مدمرة ضد حركة حماس وفصائل المقاومة، والتحذيرات من قرب حدوث حالة من الانهيار الاقتصادي في "إسرائيل" في حال امتدت الحرب 3 أشهر، وبدء صدور العديد من التقديرات بعدم قدرة "إسرائيل" على الحسم وتحقيق أهدافها العسكرية والسياسية بالقوة المفرطة التي استخدمتها طيلة أيام العدوان في قطاع غزة.
والعامل الآخر هو ما كشفته صحيفة "لوس أنجلس" عن بداية توتر غير معلن بين إدارة بايدن ونتنياهو لعدم نجاحه في إنجاز الأهداف المعلنة للحرب في ظل تصاعد الضغوط الدولية وإمعان "إسرائيل" في استهداف المدنيين وقتلهم، وارتفاع مؤشرات تهديد مصالح أميركا في المنطقة، وخصوصاً بعد احتجاز "أنصار الله" في اليمن سفينة إسرائيلية.
شكّلت الضربات النوعية الموجعة للمقاومة الفلسطينية خلال المعركة البرية وإيقاع عدد كبير من القتلى والجرحى في صفوف جنود الاحتلال الإسرائيلي عاملاً مهماً في الذهاب تجاه خيار صفقة تبادل الأسرى، إذ إن ما وثقته كاميرات إعلام كتائب "القسام" و"سرايا القدس" من عمليات كشف حقيقة وحجم الخسائر الكبيرة التي تكبدتها "إسرائيل" في قطاع غزة، وهو ما وضع قادة الاحتلال الإسرائيلي في مأزق كبير جعلهم يعترفون بوجود معارك شرسة وضارية مع المقاومة الفلسطينية.
ولتكتمل الصورة، فقد شكلت ضربات حزب الله المتصاعدة على الحدود الشمالية مع فلسطين المحتلة رسالة مهمة لـ"إسرائيل" في معادلة المشهد الساخن بأن المواجهة آخذة فعلياً في التوسع والتصاعد من خلال استخدام الوسائل القتالية المختلفة التي بدأت بصواريخ كورنيت، ووصلت إلى استخدام صواريخ بركان المدمرة التي تسببت في إيقاع خسائر كبيرة للاحتلال الإسرائيلي، والتي بات يحسب لها ألف حساب، في وقت عبرت أوساط في المنطقة عن خشيتها ومخاوفها من تفجر مواجهة موسعة، وهذا ما لا تريده الإدارة الأميركية في الوقت الحالي.
الاحتجاجات الأميركية الداخلية ضد إدارة بايدن، وحال التحول الكبير في المزاج العالمي تجاه الرواية الإسرائيلية، وزيادة التعاطف مع الفلسطينيين في قطاع غزة بعد نجاح الإعلام في نقل صور الإبادة الجماعية واستمرار المحرقة ضد أطفال غزة، أثر بشكل سلبي في مستقبل الرئيس الأميركي شخصياً من جهة، وصورة "إسرائيل" أمام العالم من جهة أخرى، ما جعل الإدارة الأميركية تمارس ضغوطاً على نتنياهو للجوء إلى الحلول السياسية والتسريع في إنجاز صفقة تبادل الأسرى.
ثمة عوامل أخرى تتمثل بالضغط الإعلامي الإسرائيلي الداخلي طيلة أيام الحرب، إذ لا تكاد افتتاحيات الصحف الإسرائيلية منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر تخلو من الدعوات لضرورة إبرام صفقة تبادل الأسرى، ولم تبقَ وسيلة إعلامية إلا وأيدت إبرام صفقة تبادل على الفور لإنقاذ حياة الأسرى من القصف الإسرائيلي.
اعتقاد "إسرائيل" أن تأخير إبرام صفقة تبادل الأسرى، والرهان على زيادة الضغط على حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية ميدانياً لغرض تقديم تنازلات، كانا سذاجة كبيرة، إذ إن المعادلة تشير، وفي ظل ضراوة القتال، إلى أن إطالة زمن وجود الأسرى في غزة تعرض حياتهم للخطر الكبير كل لحظة ودقيقة أمام وحشية القصف الجوي الذي تتعرض له غزة.
ثمة عامل إضافي مهم يدل على انكسار الموقف الإسرائيلي، ويتمثل بفشل الحرب الاقتصادية المعلنة على قطاع غزة بعد سماحها بإدخال الوقود والمساعدات خلافاً للمواقف المتشددة التي أبداها نتنياهو بداية الحرب، وهذا يعد رضوخاً لشروط المقاومة ومقدمة للتراجع في ملفات أخرى.
نجاح إبرام صفقة تبادل الأسرى الأولى هو خطوة مهمة تجاه اللجوء إلى الحل السياسي، وسيشكل مخرجاً لإدارة بايدن في إعادة النظر في موقفها المتشدد تجاه الحرب في قطاع غزة، في وقت باتت تخشى توسع الحرب بعد تصاعد فعل حزب الله على الجبهة الشمالية وعمليات جماعة أنصار الله في اليمن الأخيرة، والوقوع في فخ صراعات إقليمية قد يطول أمدها ويستنزفها أكثر ويورطها بشكل أكبر مما هي عليه الآن في أوكرانيا.
نجاح حماس بتحقيق صفقة تبادل الأسرى يأتي من منطلق قوة لا ضعف، وإنجازها يعد انتصاراً للمقاومة الفلسطينية ككل، لكن الرهان الأكبر لحركة حماس هو تحقيق صفقة تبادل كبرى، أي صفقة الجنود، إذ إنها تراهن عليها بشكل كبير لأجل تبييض السجون الإسرائيلية من الأسرى كافة .
"إسرائيل"، ومع بداية الحرب على قطاع غزة، أعمتها قوتها العسكرية وجبروت طائراتها ومدافعها واصطفاف قوى الظلم والشر في المنطقة معها. ظنت أن غزة ستكون نزهة، فوجدت أن في غزة رجالاً يحملون همّ القضية ويعشقون الموت لأجلها، وأدركت أن الذي ينتظرها كلما توغلت هو الموت الزؤام، بعدما وجدت نفسها في ورطة تجمع حطام آلياتها كل ساعة.
كل يوم صمود يعيشه الشعب الفلسطيني يعد بداية تصدع في صورة "إسرائيل" وفشلاً في موقفها، ومعها الإدارة الأميركية، ويعطي فرصة أكبر للمقاومة الفلسطينية لتحقيق أهدافها من هذه الحرب التي لم يعد قرار وقفها بعد كل هذه التطورات والأحداث بيد نتنياهو الذي بات مستقبله السياسي في مهب الريح، بل بيد الدولة العميقة في أميركا التي ستصل إلى لحظة تدرك فيها أن "إسرائيل" باتت، بإطالة أمد حربها، تشكل عبئاً ثقيلاً عليها، وأن مجريات الأحداث تؤكد أنها وصلت إلى نقطة باتت مصالحها في الشرق الأوسط مهددة، وهذا ما لن تقبل به مطلقاً.
شرحبيل الغريب ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً