مقالات مختارة
ليست المرة الأولى التي نتحدّث فيها عن الآلة الإعلامية الغربية وقدرتها الفائقة على التلاعب بالعقل الجمعي العالمي، وبالطبع لن تكون الأخيرة خاصة في زمن الحروب، فخلال الحرب الروسية – الأفغانية في نهاية السبعينيات من القرن العشرين تمكنت الآلة الإعلامية الغربية من التلاعب بالعقل الجمعي العالمي لصالح ما أطلقوا عليه زوراً وبهتاناً (المجاهدين الأفغان) الذين كانوا يخوضون حرباً بالوكالة لصالح الولايات المتحدة الأميركية، والتي استمرت عشر سنوات انتصرت في نهايتها حركة طالبان وصعدت إلى سدة الحكم ومهّدت الحرب لانهيار الاتحاد السوفياتي.
ثم لعبت الآلة الإعلامية الغربية نفسها الدور نفسه أثناء الحرب الأميركية في أفغانستان بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر 2001، والتي استمرت لعقدين كاملين حتى عام 2021 عندما تمكنت حركة طالبان من العودة مجدّداً إلى سدة الحكم، حيث صوّرت الآلة الإعلامية الغربية أنّ ما تقوم به الولايات المتحدة الأميركية هي حرب ضدّ الإرهاب، على الرغم من أنّ حركة طالبان هي صناعة أميركية بالأساس، حيث ساعدتها الولايات المتحدة الأميركية للوصول إلى الحكم بعد عشر سنوات من الحرب مع الاتحاد السوفياتي. والغريب في الأمر أنّ الولايات المتحدة الأميركية التي أطاحت بطالبان وأعلنت انتصارها على الإرهاب سقطت سقوطاً مدوياً أمام الحركة التي صوّرت أنها إرهابية في مشهد دراماتيكي غريب، لم يستوعبه العقل الجمعي العالمي حتى اللحظة.
وتمكّنت الآلة الإعلامية الغربية التلاعب بالعقل الجمعي العالمي للمرة الثالثة على التوالي أثناء الغزو الأميركي للعراق، حيث قادت الولايات المتحدة الأميركية تحالفاً دولياً بهدف وهمي لم يثبت بأيّ دليل قاطع بل ثبت كذبه بعد تدمير العراق وسرقة ونهب ثرواته، وهو (نزع أسلحة الدمار الشامل في العراق ووقف دعم صدام حسين للإرهاب وتحرير الشعب العراقي)، واحتلت الولايات المتحدة الأميركية العراق وبقيَت قواتها فيها حتى عام 2011.
واستمرّت الآلة الإعلامية الغربية تتلاعب بالعقل الجمعي العالمي أثناء تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، حيث أطلقت على عمليات الفوضى التي انتشرت في بعض الدول العربية في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011 مصطلح الربيع العربي، حيث أكدت أنّ الثورات العربية المزعومة والمدعومة أميركياً وصهيونياً جاءت من أجل تغيير الأنظمة الدكتاتورية المكرّسة للتخلف، وتمكين أنظمة ديمقراطية قادرة على تحقيق التنمية والتقدّم، وكانت النتيجة تدمير غالبية هذه المجتمعات العربية، وإدخالها في أزمات لم تتمكن من الخروج منها حتى الآن، بل استغلت الولايات المتحدة الأميركية الأزمة في سورية وشكلت تحالفاً دولياً لمحاربة تنظيم داعش، ولا تزال تحتلّ بعض الأراضي السورية تحت المزاعم نفسها وتقوم بسرقة ونهب النفط السوري، وتحاول الحفاظ على التنظيم الإرهابي الذي هو صناعة أميركية خالصة.
وجاءت الحرب الروسية – الأوكرانية وقامت الآلة الإعلامية الغربية بممارسة هوايتها في التلاعب بالعقل الجمعي العالمي، حيث صوّرت ما يحدث على أنه احتلال روسي، رغم أنّ الحقيقة تقول إنّ أوكرانيا تهدّد الأمن القومي الروسي، وتخوض حرباً بالوكالة ضدّ روسيا لصالح أميركا التي ترفض رسم خريطة جديدة للعالم متعدّدة الأقطاب لتظلّ هي المسيطر الوحيد على كوكب الأرض.
ومن هنا يتضح أنّ القوى الاستعمارية الجديدة في العالم والمتمثلة في الولايات المتحدة الأميركية أدركت أهمية هذه الآلة الإعلامية الجهنمية الجبارة، فبدأت بالسيطرة عليها لكي تتحكم في مصير العالم، فإذا كانت وسائل الإعلام هي المتحكم الرئيس في عملية تشكيل وعي العقل الجمعي العالمي، فعندما تتمّ السيطرة على هذه الوسائل يمكنها بسهولة تزييف وعيه عبر التحكم في المعارف والمعلومات التي يستمدّها عبر هذه الوسائل.
وخلال السنوات الأخيرة قامت الولايات المتحدة الأميركية بتطوير وسائل الإعلام لتتحوّل إلى جنرال في حروبها حول العالم، فظهرت الشبكة العنكبوتية للمعلومات (الانترنت)، ومن خلالها ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي مع تطوير في تكنولوجيا الهاتف المحمول، وبذلك أصبح كلّ إنسان حول العالم يمتلك وسيلته الإعلامية الخاصة التي يستطيع من خلالها الحصول على ما يشاء من معارف ومعلومات تشكل المكوّن الأول لعملية الوعي، وإذا كانت المعارف والمعلومات زائفة فإنّ الناتج عنها سيكون تزييفاً للوعي وليس تشكيلاً له.
ويمكننا ملاحظة حجم التلاعب بالعقل الجمعي العالمي الذي مارسه الإعلام الغربي خلال العدوان الصهيوني على غزة، حيث استخدم كلّ آلياته القديمة والجديدة في تزييف وعي العقل الجمعي العالمي، فعبر الفضائيات الخاضعة لسيطرته تمّ تزييف وعي المواطنين حول العالم في ما يتعلق بالأحداث التي تدور على الأرض العربية الفلسطينية المحتلة، فعندما تسأل أيّ مواطن حول العالم من أين تستمدّ معلوماتك عن ما يحدث في غزة اليوم؟ فسوف يسارع فوراً ليؤكد لك أنها عبر وسائل الإعلام، وإذا كان السؤال أكثر تحديداً من أيّ وسيلة إعلامية تستمدّ معلوماتك؟ فسوف يؤكد أنها من خلال الإعلام الجديد المتمثل في مواقع التواصل الاجتماعي التي تبث عبر شبكة الإنترنت.
لذلك لا عجب أن تجد الآن تزييفاً لوعي العقل الجمعي العالمي، بل وجهل بحقيقة ما يجري من حرب إبادة لشعبنا العربي الفلسطيني بواسطة الآلة العسكرية الصهيونية المجرمة، (رغم كلّ الجهود التي تقوم بها الآلة الإعلامية المقاومة)، فقد تمكنت الولايات المتحدة الأميركية من كسب العديد من المعارك في إطار الجيل الرابع والخامس للحروب عبر استخدام الآلة الإعلامية الغربية الجهنمية الجبارة التي تمتلكها وتقوم من خلالها بعملية غسيل لأدمغة سكان العالم، لذلك أصبح العقل الجمعي العالمي تسيطر عليه الرواية الصهيونية مهما كانت مزيفة ومفبركة، فحتى الآن يعتقد جزء كبير من سكان كوكب الأرض أنّ ما يحدث في غزة هي حرب يخوضها جيش الاحتلال الإسرائيلي دفاعاً عن المستوطنين الصهاينة، الذين يتعرّضون لإرهاب من جماعة حماس المسلحة وفقاً للرواية الصهيونية، في حين أنّ الحقيقة تقول إنّ هذه الأرض ملك هذا الشعب الفلسطيني وتمّ احتلالها واغتصابها من هؤلاء الصهاينة منذ ما يزيد عن قرن من الزمان، وما تقوم به حماس وباقي الفصائل الفلسطينية هي مقاومة وطنية مشروعة لتحرير ترابهم الوطني المحتلّ، اللهم بلغت اللهم فاشهد…
د. محمد سيد أحمد ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً