مقالات مختارة
رغم أنّ الفلسطينيين في غزّة والضفة هم ضحايا حرب الإبادة الصهيونية، فإنّ ردود الفعل على ما يجري لهم ليس شأناً فلسطينياً على الإطلاق. ومع أنّ الجميع متفقون على أنّ القتل بدم بارد للأطفال والرضّع والنساء، وتدمير البيوت فوق رؤوس أصحابها الأبرياء وقصف المستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء والمساجد والكنائس وسيارات الإسعاف أفظع ما رأته الأعين في القرن الواحد والعشرين، ومع أنّ الجناة، حكام الكيان اللقيط و"جيشه" ومؤيّديه الصهاينة في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبا وتوابعها، انشغلوا بحجب المواقع الإعلامية والصور التي يندى لها جبين الإنسانية، ودفع المليارات للمواقع كي لا تنشر تلك الصور، وتشديد الحصار على شعب غزة الأعزل بدلاً من أن يضعوا حداً لهذا التطهير العرقي الوحشي بحقّ شعب بكامله، فإنّ فهم ردود أفعال الشعوب والدول والأشخاص من هذا الإجرام بحاجة إلى وقفة متأنية وتفسير يليق بإنسانية الإنسان أولاً، وبالمثل التي ائتمنه الخالق عليها حين وضعه في مرتبة أسمى من كلّ المخلوقات على وجه البسيطة.
فالمسؤولون الذين قدّموا استقالتهم، وعلى رأسهم جوش بول في وزارة الخارجية الأميركية لأنه لم يستطع الضغط من أجل سياسة "أكثر إنسانية ولا يستطيع الاستمرار في وظيفة تُسهم في مقتل مدنيين وفلسطينيين"، فهو وأمثاله عبّروا عن وجدانهم الإنساني وقيمهم الأخلاقية، بالرغم من الأثمان الشخصية والمعيشية التي عليهم أن يدفعوها. والناشطة اليهودية السويدية، غريتا تونبرغ، التي عبّرت عن دعمها لفلسطين، تمّ شطب اسمها من المناهج الدراسية الإسرائيلية بعد أن كانت تُعدّ قُدوة تربوية. كما قام مئات اليهود الأميركيين بالتظاهر في مبنى الكونغرس ليعبّروا عن رفضهم لقصف شعب فلسطين بالفوسفور الأبيض، وقتل النساء والأطفال، وحرمان 2.2 مليون شخص من الماء والغذاء والدواء والوقود، وقالوا بصوتٍ عالٍ "ليس باسمنا".
وكذلك فعل الأمين العام للأمم المتحدة حين قال كلمة حقّ بأنّ ما شهدناه في 7 تشرين الأول/أكتوبر هو نتيجة سنوات من القمع والقهر والعنف والإذلال للشعب الفلسطيني، وهكذا قال الرئيس الكولومبي، غوستافو تيرو، والشعب الكولومبي والتشيلي والبوليفي والكوبي والفنزويلي في أميركا اللاتينية. كما فعلت ذلك شعوب وحكومات على امتداد الكرة الأرضية، وجاليات يهودية وأرمنية ومسلمة ومسيحية في كلّ البلدان وقفت لتقول لا لقتل الأطفال والأمهات، ولا لقصف المنازل والمستشفيات، ولا للقتل الوحشي المتعمّد للمدنيين، ولتصرخ من أجل احترام إنسانية الإنسان. وفي كلّ هذا كان هؤلاء جميعاً يعبّرون عن مخزونهم الحضاري، ووجدانهم الإنساني وأخلاقهم الرفيعة، وحرصهم على رفع الظلم وإحقاق الحقّ. أي أنّ دعمهم للفلسطينيين ووقفتهم المشكورة ضدّ الظلم والوحشية والإبادة هي بحدّ ذاتها تعبير عنهم وشهادة لإنسانيتهم وتكوينهم الأخلاقي.
وبالمقياس ذاته، نتيقّن اليوم أنّ مجلس الأمن والكثير من المنظمات الأممية قد فقدت مشروعيتها، رغم أنّ كثيراً من أفرادها قد ضحّوا بأنفسهم دعماً للفلسطينيين، فإن آلية عمل المنظمات التابعة للأمم المتحدة، وعلى رأسها مجلس الأمن، برهنت عن عجزها عن قول كلمة حقّ، والتوصّل إلى موقف يساعد في حماية حياة البشر، وهذا مفصل ستكون له نتائجه في المستقبل القريب، ولا شكّ أنّ العمل جارٍ لإيجاد بدائل فاعلة وقادرة على أداء الدور الذي وُجد من أجله مجلس الأمن والمنظمات الأممية بعد الحرب العالمية الثانية. ولكنّ استخدام الولايات المتحدة المسيء لحقّ النقض "الفيتو" لكي تطلق يد مجرمي الحرب الصهاينة في قتل أكبر عدد ممكن من أطفال غزة، هذا الحق الذي تمّ منحه أصلاً لهذه الدول من أجل الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين قد أجهض الهدف الذي وُجد من أجله مجلس الأمن.
وبدلاً من أن ينصت الطغاة للأصوات الصادقة والحريصة المنبثقة من كلّ أرجاء المعمورة، فقد سخّروا قدراتهم لإخفاء الصور وإسكات أيّ صوت قد يشي بحقيقة ما يجري على الأرض، محاولين أن يطفئوا نور الله بأفواههم. وقد وصل بهم الأمر إلى تخصيص مقالات ومماحكات تعدّ المؤتمر الصحفي للرهينة الإسرائيلية المُفرج عنها، يوشيفيد ليفشيتز، كارثة لـ"إسرائيل" لأنها تحدّثت عن لطف الفلسطينيين ومعاملتهم الحسنة للرهائن. وبدلاً من أن يكون السؤال لماذا لا يعامل كيان العدو الأسيرات الفلسطينيات بالطريقة الحسنة ذاتها، والتي هي واجب أخلاقي على كلّ من يحتجز أسيراً، أصبح السؤال العريض في جريدة "يديعوت أحرنوت": "لماذا سمحت إسرائيل بهذه الكارثة في العلاقات العامة؟" فهم يعاملون الأسرى الفلسطينيين معاملة وحشية، ومعظمهم رهائن يختطفون من على الحواجز ومن منازلهم ويسمونهم "سُجناء إداريون" بغير وجه حقّ، وليسوا أسرى معارك عسكرية بل هم مدنيون عزّل، والمهمّ عندهم هو ألّا تتأثر صورة كيان الأبارتيد الصهيوني في أنظار الآخرين.
ولعلّ أهمّ نتيجة للتضحيات الهائلة والعظيمة التي قدّمها الشعب الفلسطينيّ خلال الشهر الماضي في غزة ومدن الضفة الباسلة وجنين ونابلس ورام الله والخليل، هي أنها أعادت القضية الفلسطينية حيّة في ضمائر البشر، وفي جميع القارات، وأنها كشفت الوجه الحقيقي لهذا الكيان الغاصب؛ وأنه لا يقيم وزناً للطفولة أو للحياة، وأنه يرتكب أكثر الجرائم وحشية من دون أن يرفّ له جفن. ويكفي أن نذكر أنّ هذا الكيان المتوحش يعمد إلى قتل أسراه هو في غزّة وليس فقط إلى تعذيب الأسرى الفلسطينيين وقتلهم في سجونه وإعدام الرهائن في الشوارع علناً غير خائف من حسيب أو رقيب بسبب دعم حكام أميركا وأوروبا لجرائم الإبادة ضد العرب في نظام الأبارتيد التابع لهم في فلسطين المحتلة، فقد قتل إلى حدّ اليوم أكثر من عشرة من أسراه المحتجزين في غزّة، وهو يحاول قتل ما تبقى منهم كي لا تتمّ عملية المبادلة مع الرهائن الفلسطينيين. أي أنّ الحياة الإنسانية سواء أكانت فلسطينية أم إسرائيلية، يهودية أو مسلمة أو مسيحية، لا قيمة لها عنده لأنّ حساباته تتجاوز قيمة الحياة الإنسانية لتُصبح هذه الحياة أداة رخيصة له لتحقيق أهدافه.
كلّ ما فعله هذا الكيان منذ أن بدأ حرب الإبادة الشرسة ضدّ الفلسطينيين هو محاولة التغطية على جرائمه، وتضليل العالم حول ما يجري في فلسطين. ولكن، ورغم كلّ محاولاته فقد نجح الفلسطينيون، ومعهم أصحاب الضمائر الحرّة من كلّ أنحاء العالم، ومن مختلف الثقافات والديانات والأعراق، نجحوا في إعادة أحقية القضية الفلسطينية، وعدالة هذه القضية إلى واجهة القضايا العالمية، وإلى الوجدان والضمير الأمميين. ولا شكّ أنّ مسار دعم القضايا العادلة، وخاصة الشائكة منها، كالقضية الفلسطينية، يحتاج إلى وقت وجهود وصبر وثبات واستمرارية، ولكنّ المسار بدأ من دون شكّ، وتضحيات الشعب الفلسطيني المستمرّة لقرن مضى بدأت تأخذ طريقها إلى النور.
كلّ ما نحتاجه من الآن فصاعداً هو أن نعكف على دراسة الدروس المستفادة من شهر تشرين الأول/أكتوبر، وأن نسدّ الثغرات، ونعالج الهنات عالِمين علم اليقين أنّ القلوب والضمائر الحرّة في العالم معنا، وأنّ بعض الحكومات مهما طغت وحاولت لن تتمكّن من حرف مسار التاريخ، ولن تقدر على هضم قضية شعب قرّر بإرادة من حديد أن يعيش على أرضه، وأن يبذل من أجل ذلك الغالي والنفيس، ولن تتمكّن مسرحيات التطبيع وأوسلو والمسار الإبراهيمي من منافسة عائلة واحدة من عوائل الشرف والكرامة الذين ارتقوا شهداء قانعين رافعي رؤوسهم، من منافستهم في اعتلاء مقعد الحقّ والعدالة بنظر شعبهم، ونظر كلّ الشعوب والأفراد الذين قرّروا ألا يهنوا ولا يحزنوا لأنهم يعلمون أنهم الأعلون لأنهم مؤمنون.
بثينة شعبان ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً