مقالات مختارة
كم كنّا سذجاً عندما لم نكن قد بلغنا بعد سن الثالثة عشرة، ونحن نستمع بإعجاب كبير الى المدرّس الفرنسي في الليسيه، وهو يحدّثنا بنشوة ما بعدها نشوة عن تاريخ فرنسا، والثورة الفرنسية، ومبادئها وشعارها: حرية، مساواة، أخوة. وعندما كبرنا ونضجنا، عرفنا حقيقتها، ومدى تطبيق الدولة الفرنسية لهذه المبادئ التي تغنّت بشعاراتها، فيما هي كانت تنضمّ الى قافلة دول الاستعمار البريطاني، والهولندي، والبرتغالي، والبلجيكي، والإسباني، والألماني، والإيطالي، والتي احتلت بلداناً، لعقود وقرون، تنهب خيراتها، تذلّ وتستغلّ شعوبها، تقمع بالقوة كلّ مقاوم لها. ترتكب المجازر تلو المجازر بحقّ الشعوب المناضلة من أجل الحرية، والعدالة، والاستقلال، وتدمّر مدناً وقرى، وتصفي وتعدم في الساحات طوابير الوطنيين الأحرار المقاومين لها.
قدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى تل أبيب، حاملاً معه «مبادئ» الثورة الفرنسية، وإرث سياسات فرنسا الاستعمارية، ليقول لنتنياهو، جزار غزة، إنه أتى الى «إسرائيل» لكي يعرب له عن تضامن فرنسا الكامل مع الكيان، و»يذكر الجميع بحقها في الدفاع عن نفسها» في وجه ما وصفه بالدمار… مؤكداً له «أنّ أولويتكم وأولوية كلّ الديمقراطيات، وفرنسا، هي الانتصار على المجموعات الإرهابية»!
سيد ماكرون…
بأيّ منطق، وبأيّ قانون دولي تعطي الحق لدولة تحتلّ أرضاً بالدفاع عن نفسها ضدّ شعب مقاوم لها، يقع تحت احتلالها؟!
لماذا تعوّد بلدكم، وتعوّد معه قادته على التعاطي مع قضايا الشعوب الحرة، وحقوق الإنسان، وحرية الشعوب، بازدواجية بشعة مقيتة؟! لماذا تصرّون وتعتبرون انّ المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي إرهاباً؟! ما هو الوصف الذي يمكن إطلاقه إذن، على مقاومة الفرنسيين للاحتلال النازي من خلال مفهومكم هذا، الخارج عن المنطق؟! فهل كانت مقاومتكم للنازيين إرهاباً حتى نأخذ علماً بذلك، حيث كان النازيون الالمان يعتبرون المقاومين الفرنسيين لهم، على إنهم إرهابيون، ويجب القضاء عليهم في الحال؟
لقد قاوم مغامرات فرنسا العسكرية واحتلالها ماضياً لبلدان عديدة، الروس، والأوروبيون، والفيتناميون، والجزائريون، والسوريون، واللبنانيون، والتونسيون، والمصريون، وشعوب أخرى في أفريقيا والعالم، جراء احتلالكم بلدانهم، وبعد ذلك، تصدّيتم لهم ووصفتموهم بالإرهابيين، لأنهم قاوموكم وطالبوا بحريتهم واستقلال بلدانهم. فما الذي فعلتموه بهم؟! دمّرتم مدنهم وقراهم، وأمعنتم بهم قتلاً، ومارستم بحقهم أقذر سياسة عنصرية، ونهبتم خيرات بلادهم، ضاربين عرض الحائط بالمبادئ الإنسانية التي لا زلتم تتشدّقون بها.
سيد ماكرون…
الاحتلال لا يتجزأ. ومقاومة الشعوب المقهورة لا تتجزأ. حرية الشعوب لا يمكن لها أن تعيش تحت سقف الاحتلال. فهل بلغتم ذلك للصهاينة المحتلين الذين أعربتم عن دعمكم الكامل لهم وعن «عاطفتكم الجياشة» حيالهم؟!
سيد ماكرون…
إنكم بكراهيتكم الواضحة التي لا لبس فيها تجاه العرب، تقفون دون وجه حقّ الى جانب المحتلين الإسرائيليين. فماذا عن القرارات الدولية ذات الصلة بفلسطين، والنازحين، والقدس، والاستيطان، والتهويد، ومصادرة الأراضي؟! هل وقفتم مرة واحدة، وتضامنتم مع الشعب الفلسطيني، وكانت لكم الشجاعة والجرأة في اتخاذكم إجراءات صارمة ضدّ قرارات وسياسات دولة الاحتلال، التي لا تتوقف عن سياسات القضم والضمّ لأراضي الفلسطينيين منتهكة علناً ودون أيّ رادع القانون الدولي؟! ما الذي فعلتموه لوقف حركة الاستيطان في الضفة الغربية، وحول القدس وأنتم تتكلّمون عن دولتين؟!
سيد ماكرون…
تقفون دائماً الى جانب الكيان المحتلّ ظلماً، لكن ألم يلفت نظركم شعب يعيش في سجن مفتوح محاصر، يُمنع عنه كلّ وسائل العيش الكريم؟! ألم تحرككم مشاعركم «الإنسانية» و»مبادئ» ثورتكم الفرنسية، للعمل على إطلاق سراح الأسرى المعتقلين في سجون الاحتلال الذين يقاومون من أجل حريتهم، حيث تجاوز عدد المعتقلين السبعة آلاف، من بينهم 500 طفل، وعشرات النساء المعتقلات، و1200 معتقل إداري دون محاكمة؟!
سيد ماكرون…
عن أيّ ديمقراطية تتحدثون، فيما أنتم تغضّون الطرف عن الجرائم ضدّ الإنسانية التي تنفذها دولة الإرهاب الإسرائيلية، وهي تقوم بإبادة جماعية، وتطهير عرقي، لشعب آمن، ألحقت آلتها العسكرية الدمار والموت بآلاف الأطفال والنساء والشيوخ والرضع؟!
ألم يحرك ضميركم ما قالته الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، أنياس كالامار: «لقد أدّى الحصار الإسرائيلي غير الشرعي لغزة طيلة 16 عاماً، إلى تحويلها إلى أكبر سجن مفتوح في العالم… وأنه يتعيّن على المجتمع الدولي أن يتحرك الآن، لتجنّب تحويل غزة الى مقبرة جماعية هائلة»؟! ألا تستحق غزة منك سيد ماكرون، عطفاً ودعماً كالذي أظهرته لدولة الاحتلال، فيما أنتم وللأسف الشديد طالبتم بهدنة إنسانية، ولم تطالبوا بوقف دائم لإطلاق النار، كي تستمرّ «إسرائيل» في إبادتها الجماعية، وجرائمها الوحشية ضدّ الإنسانية؟!
كم تحتاج فرنسا اليوم الى رجل كبير كشارل ديغول، بعد أن قزّم إيمانويل ماكرون دور فرنسا وحجم صورتها في أوروبا وشوّهها في العالم، وجعل قرارها تابعاً، مستفزاً، عدائياً، يثير كراهية شعوب عديدة في العالم لا سيما في أفريقيا والعالم العربي،
ليذكرنا ماكرون من جديد، برؤساء وزراء الجمهورية الرابعة لفرنسا، الذين مارسوا سياسة القهر، والقوة العسكرية، والهيمنة، والاحتلال بحقّ شعوبنا العربية، أمثال أريستيد بريان، وروبير شومان، وجوزيف لانيال، وغي موليه، وغيرهم من الرموز القبيحة للاستعمار الذين جسّدوا في داخلهم سياسة العدوان والعنجهية، والعنصرية، والكراهية بحق الشعوب المقاومة.
سيد ماكرون…
كان عليكم قبل أن تدعموا الكيان العنصري، وتقفوا الى جانبه، أن تقولوا لجزار غزة نتنياهو، إنّ «إسرائيل» لن تنعم بالأمن والاستقرار، وسلام الأمر الواقع، طالما هناك حقّ عربي في مواجهة الاحتلال الصهيوني.
فلا سلام ولا أمن في المنطقة دون تطبيق قرارات الشرعية الدولية التي تتعمّدون تجاهلها مع عدد من الدول التي تختزن في داخلها الحقد، والعداء والكراهية المطلقة للشعوب الحرة المقاومة، التي تبحث فعلاً عن تحرّرها من سياساتكم العنصرية واستبدادكم، وعنجهيتكم.
سيد ماكرون…
متى يتحرك ضمير فرنسا الذي عطلتموه، لوضع حدّ للنازيين الجدد، الذين يستمرّون في ارتكابهم المجازر الوحشية التي أوْدت حتى اللحظة، بحياة أكثر من 7 آلاف إنسان وعشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين؟!
متى، متى يستيقظ ضميركم يا رئيس فرنسا؟!
د. عدنان منصور ـ البناء
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً