مقالات مختارة
كان طوفاناً استراتيجياً، فريداً من نوعه في تاريخ القضية الفلسطينية، تأثيره لم يكن داخلياً فقط، بل عربياً وإقليمياً ودولياً، لم يكن فعلاً عسكرياً محدوداً في قطاع غزة، بل تجسد فيه مفهوم التكاملية لأطراف محور المقاومة، بين غزة وبيروت واليمن والعراق وطهران، كان الفعل عسكرياً من جهة وسياسياً دبلوماسياً تحذيرياً حاسماً من جهة أخرى.
طوفان تجسد فيه مفهوم وحدة الساحات، بتحرك عسكري من أول حليف لحركة حماس، المقاومة الإسلامية في حزب الله، الجهة الوحيدة التي بدأت قتال الاحتلال على الجبهة الشمالية إلى جانبها فصائل فلسطينية في لبنان، تلاه تحرك آخر من المقاومتين الإسلاميتين في العراق واليمن عبر استهدافهما المصالح الأميركية، ناهيك بالدور الأبرز لإيران ومواقفها التي عبّرت فيها على لسان وزير خارجيتها خلال جولاته المكوكية، والتي تصدّرت المشهد بقوة وعكست من خلالها وحدة الموقف كما وحدة الميدان، ورفضها لكل أشكال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والتحذير الشديد برفضها المطلق لأي محاولات لتصفية القضية الفلسطينية وإبادة قطاع غزة، والتحذيرات من أن استمرار ارتكاب "إسرائيل" جرائم بحق الفلسطينيين سيشكل سبباً كافياً لتوسع نطاق الحرب، واضطرار أطراف أخرى للانخراط فيها؛ استناداً إلى معطيات قد يفرضها الميدان في أي لحظة.
نجح حزب الله خلال مشاركته في "طوفان الأقصى"، وعبر توجيهه ضربات موجعة كبّد فيها "إسرائيل" خسائر عسكرية وبشرية فادحة، في المحافظة على توازن الرعب وقوة الردع بمسؤولية عالية وفق ظروف واعتبارات ميدانية وسياسية خالصة قدم فيها عشرات الشهداء على طريق القدس، في وقت كانت تراهن المؤسسة الإسرائيلية على صمت جبهة الشمال وعدم التدخل فيما جرى.
"طوفان الأقصى" ومنذ لحظة العبور وما حققه من نتائج شكل إنجازاً استراتيجياً في تاريخ الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي، ورسخ مفاهيم جديدة لعلّ من أبرزها فشل مشروع احتواء المقاومة الفلسطينية أو ترويضها وفصلها عن تحالفاتها في محور المقاومة، وسقوط مفهوم أن "إسرائيل" قوة لا تقهر بعد أن مرغت المقاومة الفلسطينية أنفها في التراب، فيما لم يعد "جيشها" من أفضل جيوش العالم بعد أن كسرت هيبته وهشمت في عبور "طوفان الأقصى".
راهنت إدارة بايدن في بدايات معركة "طوفان الأقصى" على خيارات كبيرة، ليس تجاه حماس وحدها بل تجاه محور المقاومة ككل، وعبّر الرئيس الأميركي عن هذا الرهان في الأيام الأولى، قائلاً إن أميركا لن تسمح لحماس وإيران وأنصارهما بالفوز في الشرق الأوسط، كما إنها لن تسمح بانتصار روسيا في أوكرانيا، لكنها ومع مرور الأيام، وصمود المقاومة الفلسطينية وتحرك أطراف محور المقاومة ميدانياً وسياسياً، بدأت ومعها مستعمرتها في المنطقة "إسرائيل"، النزول عن الشجرة شيئاً فشيئاً، فيما لم يعد لمثل هذا الرهان أي رصيد، ومثل هذا الرهان معنى.
إن إدارة بايدن كانت تريد في بدايات المعركة الذهاب بالصراع إلى حده الأقصى في المنطقة كفرصة لتعويض هزيمتها في أوكرانيا، وفق حسابات استراتيجية واعتبارات استعادة الهيمنة الدولية في الشرق الأوسط أمام أقطاب جديدة بدأت تتشكل.
شكلت ضربات حزب الله المتواصلة على الجبهة الشمالية من جهة وضربات المقاومتين العراقية واليمنية لمصالح أميركا وقواعدها رسالة شديدة اللهجة، جعل الإدارة الأميركية تعيد حساباتها من جديد في قراءة المشهد الملتهب ككل، تحسباً لتوسع رقعة المواجهة، ما جعلها تعبّر مؤخراً عن حرصها أن يقتصر الصراع على قطاع غزة فقط، وحتى تكتمل الصورة تراقب إيران بدقة الموقف والتحرك الأميركيين تجاه أي مستجد بشأن الانخراط بشكل مباشر في المواجهة أو محاولة توسيعها مجدداً، وهو ما سينعكس على المنطقة ككل.
لعل السؤال الأهم الذي يطرح نفسه إزاء ما يجري منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر وإطلاق حماس عملية "طوفان الأقصى" وانعكاساتها في المنطقة على محور المقاومة، حول ماهية خيارات إيران في المواجهة القائمة و السيناريوهات المتوقع حدوثها، في ظل استمرار معركة "طوفان الأقصى" في أسبوعها الرابع:
- إيران تمتلك من الخيارات الكثير في ظل السيناريو القائم، وهذا تجسد في مشاركة أطراف مهمة في محور المقاومة في تصعيد مضبوط الإيقاع، سواء في لبنان أو حتى رسائل النار التي وجهتها أطراف المحور الأخرى في العراق واليمن وسوريا لقواعد أميركية.
- تمتلك طهران خيارات استراتيجية أخرى حال فكرت إدارة بايدن توسيع بقعة المواجهة الدائرة، بإعطاء الضوء الأخضر لأطراف محور المقاومة بتكثيف دائرة استهداف القواعد والمصالح الأميركية في المنطقة وتوسيعها، بما يؤثر بشكل واضح في الموقف الأميركي من الحرب على قطاع غزة، وتفعيل مثل هذا الخيار سيجبر أميركا على إعادة النظر في حساباتها، سواء على صعيد الضوء الأخضر الممنوح لــ"إسرائيل" وحجم الدعم في عدوانها على الفلسطينيين، أو تجاه سياستها في المنطقة ككل.
- تمتلك طهران خيارات أكثر جرأة في السياق ذاته، عبر استهداف المصالح الأميركية في البحر الأحمر، وقد ترجم هذا الخيار في رسائل المقاومة اليمنية باستهدافها قبل أيام قليلة بارجة أميركية بحرية بصواريخ ومسيرات، وهذا الخيار يعد الأخطر على الولايات المتحدة حال تكرر أو ازدادت وتيرته و توسعت.
وبينما ترسل أطراف محور المقاومة رسائل النار إلى القواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة، تعيش إدارة بايدن انقساماً في الموقف تجاه الدعم المطلق لـ"إسرائيل"، وتحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين، وتسجل فشلاً جديداً في مشهد يعكس اصطفافاً واضحاً إلى جانب "إسرائيل" في مجلس الأمن، و إرباكاً يضاف إلى فشلها في أوكرانيا.
أما إيران، وبعد عشرين يوماً من العدوان المتواصل على الفلسطينيين، فهي في حالة اشتباك غير مباشر مع "إسرائيل" وفي أكثر من منطقة، لكن ما يعرف عن إيران أنها دولة تحسب خطواتها بدقة بالغة في بيئة غاية في التعقيد، ويسجل لها في هذا المشهد الساخن أنها الدولة الأعلى صوتاً في دعم الشعب الفلسطيني وإسناده ونصرته ورفض الإبادة الجماعية التي يتعرض لها، مقارنة بمواقف عربية إما ضعيفة هزيلة أو أخرى مطبعة في وقت باتت "إسرائيل" مأزومة مهزومة تتقهقر مفلسة سياسياً وساقطة عسكرياً عالقة في منتصف الطريق.
الخيار الثابت والراسخ في المعادلة الحالية لدى إيران هو أنها مع فلسطين قولاً وفعلاً، لن تقبل بهزيمة المقاومة في قطاع غزة بأي حال من الأحوال، انطلاقاً من الإنجاز الاستراتيجي التاريخي الذي سجلته وعلى قاعدة فلسطين قضية الأحرار، لن تموت.
شرحبيل الغريب ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً