نُورُ الصَّبَاح..خِطَابُ التُرَاب

الأربعاء 18 تشرين الأول , 2023 11:59 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

تَنَفَّسُ النَّسِيمُ الصّباحيّ، بعدَ ما فاتَ مِنَ اللّيلٍ البَهِيمِ الذي مَرّ دامِيّا، أليمًا، فتَبَعثَرَت أوْرَاقُ الشَّجَرِ مُتَأَثِّرَةً، وهَمَسَت لِيَ الأَفْكَارُ بِالْمُرُورِ إلَى أَرْضٍ الْمُشَاعِرِ الْحَارَّة، إلَى تِلْكَ الْبِلَاد الشَّامِخَة، إلى حيثُ أَنْتِ يَا غَزّة، يا فِلِسْطِين.

بَاتَت قُلُوبُنَا مُتَجَذِّرَةً فِي هَذَا الْتُرَابِ الصّخْبِ، وَأَصْبَحَت أَجْسَادُنَا جُزْءًا مِن هَذِهِ الْأَرْضِ المُبارَكةِ، هِي ومَن حولَها دِيارٌ مُقَدَّسَةٌ، إذ تَجَسَّدَ فِيهَا تاريخٌ إيمانيٌ عظيمٌ، كان للجهادِ القِسمُ الأكبرُ منه. إلى أن جاء المستعمرُ الغربيُّ البغيضُ الذي لا يملكُ فأعطى مَن لا يستحق مِن شُذّاذِ الآفاقِ، مِمّن لم يرضونَهُم في بلدانِهم، فجاؤا بهم إلى أرضٍنا الحبيبة، ففعلوا الأفاعيل؛ مجازرَ لا تُنسى، من دير ياسين وما بعدها إلى اجتياح لبنان عام ٧٨، والى احتلاله عام ٨٢، إلى مجازر  قانا والمنصوري في العدوانين الكبيرين عام ٩٣ وعام ٩٦. غيرَ  أنّ أَحْلَامَ شَعْبِنَا  تَحَقَّقَت بالتحريرِ عامَ ٢٠٠٠، وذلك بقوةِ الأبطالِ الذين قاوموا وواجهوا فاستُشهدَ مَن استُشهد وجُرِح من جُرح وبقي من بقي ولا زالوا في ساحِ الدفاعِ عن الوطن، إلى أن جاءت الاعتداءات الكبيرة على وطننا في عام ٢٠٠٦، حيث وقف العدوُّ البعيد، والعدوُّ القريب، والحقيرُ البعيد، والحقيرُ القريب، ينظرون إلى أشلاءِ أجسادِنا،  وإلى بيوتنا المدمرة، وإلى عمارتنا  الممحية، وإلى طرقاتنا المقطوعة، وإلى جسورنا المحطمة، يتمنون محوَنا من الوجود، أو تهجيرنا من البلدان، أو شطبَنا من الخارطةِ السياسية، وكانت مقولةُ العالمِ الغربيِّ المستعمرِ انذاك: "إسرائيل يحق لها أن تدافع عن نفسها."

ولكنهم خسئوا، وسيبقُونَ خاسئِينَ أمامَ عزيمتِنا المستمدةِ من رَوحِ اللهِ، وسيكونونَ دوما، كما كانوا، مِنَ الأذَلِّين، فلقد طغوا، وبغوا، وإنّ اللهَ بالمرصادِ لو كانوا يعلمون، لو كانوا يعقلون، وسيبقى سلاحُنا بأيدينا، هو زينةُ واقعِنا وأحلامِنا، هو آلةُ الدفاعِ عن وجودِنا، هو كرامةُ شعبِنا، هو قوةُ وطنِنا، ومن تناولهُ، مِنَ القريبين أو البعيدين، بكلمةٍ أو قولٍ أو موقفٍ هو عدوٌ كالأعداءِ، وهو مُفتَرٍ كالمُفتَرِين، وهو مُنافقٌ كالمُنافقين، وهو ضالٌ من المُضلين، وهو خائنٌ من الخائنين، وهو شيطانٌ رجيم، ملعونٌ من الملعونين، وكفى.

الْيَوْم، نُعِلِّن بِكُل فَخْر وَاعْتِزَاز، على الرغم من الاعتداءات الفظيعة والقتلِ وسفكِ الدمِ والمجازر الرهيبة والأفعال الإجراميةِ الرهيبة،  أَنَّنَا لَن نَتْخَلَّى عَن هَذَا الْوَطَن الْعَزِيز، وَلَن نَتْرُكَه يَعَانِي فِي جِلْبَاب الاحتِلَال. هَذِهِ الْأَرْض قَد شَهِدَت أَلَمًا كَبِيرًا، وَقَد انْتثَرَت عَلَيْهَا دِمَاءُ شُهَدَائِنَا الَّذِين ضَحَّوا بِأَنْفُسِهِم مِنْ أَجْل الْحُرِيَّة وَالْكَرَامَة، وتلونت بدماءِ اطفالِنا والسكان والأهلين بفعلِ العُدوانِ الباغي الذي لا يعرفُ شريعةً ولا دينا ولا قوانينَ دولية إنسانية، إنهم لا يعرفونَ سوى لغةَ القتلِ والبغيِ والعُدوانِ، ولو استطاعَ هذا العالمُ المُستكبِرُ أن يفعلَ ببلدانِ أمتِنا كلها ما يفعلُ اليومَ في فلسطين، وما فعلَه في لبنان، لفعلَ كلَّ ذلكَ وأكثَر،  فلا يريدُ هذا العدوُّ ومَن وراءَه إلا أن تكونَ أمتُنا تابعةً ذليلةً يأكلونً خيراتِها، ونحن نقولُ، وخطابُ الترابِ يقول: " هيهات مِنّا الذِّلة، يَأبَى اللهُ ذلك لنا ورسُولُه، والمُؤمِنون،..."

نُعِلِّقُ آمَالَنَا وَتَطَلُّعَاتِنَا عَلَى شَجَرَةِ الفِدَاءِ العظيمِ، لِكَي لَا تَسْقُطُ بِلَادُنَا فِي أَرْشِيفِ النِّسْيَان. وَنُرَاقِب بِأَمَلٍ كَبِيرٍ فَرَاشَاتِ النُّورِ الَّتِي تَُحِلَّقُ بِالهِممِ حَوْلَ الْمَسْجِد الْأَقْصَى، وَنَرى الزَّمَنَ الذي يَكُونُ فِيهِ السَّلَامُ هُو اللُّغَةُ الْوَحِيدَةُ لِمَدِينَةِ السَّلَام، بعد تحريرِها من أرجاسِ البشريةٍ، من صانِعي الحروبِ المُدَمِّرةِ، ومِن فاعِلي الإثمِ الكبير، مِن القتلةِ والمجرمين، مِنَ الخنازيرِ الوَحشيةِ، ومن آكلي لحومِ البَشَرِ، مِن الأنذالِ سافِكي دماءِ الأطفالِ في بيوتِهم والمستشفياتِ والساحات.
وليسَ ذلكَ على اللهِ بِبَعِيد.

غَزَّة، يَا لَغَزَّة، أَيّ عَظَمَةٍ أنتِ فِي قَلْب هَذِهِ الْأَرْضٍ الصَّغِيرَةِ بالمِساحةِ، الْكَبِيرَةِ بِالْعِزَّة وَالْفَدَاءِ، بِعَطَاءِ الرُّوحِ وَالدِّمَاء. إنَّكِ مَكَانٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ السُّمُوُّ وَالرُّفْعَةُ الإنْسَانِيَّة الزاكيةُ بعطاءِ الدّمِ والرّوحِ.

الْعَالَم بِأَسْرِهِ مَدِينٌ لَكِ يَا غَزَّة، لِأَنَّك قَاوَمْتِ بِكُلّ شَجَاعَةٍ وَصُمُودٍ، ولا زِلتِ في الميدانِ عصيةً على العدوانِ. كُلّ طِفْلٍ وَعَجُوزٍ فِي غَزَّة يُمَثِّلُون رَمْزًا لِلصُّمُودِ وَالْأَمَل، دفاعًا عن الحياةِ الكريمةِ، عن عزةِ الأوطانِ، وعن حقوقِ الناسِ في العيشٍ ببلادِهم كما يشاؤون.

إنّ رُوحِي تَتَجَوَّلُ حَوْلَ شَمْعَةٍ تُضِيءُ طَرِيقَ الْأَمَلِ فِي غَزَّة، فأرى شمعاتٍ تُجَسِّدُها سواعدُ الأبطالِ المقاومين وقلوبهِم في ساحة القتال، كان اللهُ معهُم، ورحمَ شهداءَهم، ونصرَهُم على عدوهم.

 وَهَذِهِ الشَّمْعَةُ، في غزّة، تَحْتَضِن قَصَصًا عَظِيمَةً عنِ الْأَطْفَالِ وَالْمُسْنِين، وعن الرجال والنساء، وعنِ الشباب الأبطالِ المُكافِحينَ الَّذِين يُوَاجِهُونَ التَّحْدِيَّاتِ والعذاباتِ وأشكالَ العُدوانِ بِقُوَّةٍ الايمانِ، وَبإِصرَار البطولة، وبطُهرِ الشّهادةِ. تِلْكَ الشَّمْعَةُ سَتُجْبِرُ الظَّلَامَ عَلَى التَّرَاجُع، وستعُودُ معالمُ الضَّوْءِ لِتُحيِي الْحَيَاةَ فِي هَذَا الْقِطَاع الْأُسْطُورِي الصَّامِد، بل في الأمةِ كلِّها.

تُقَاوِمُ غَزَّة بِكُلّ قُوَّتها، وتَسْتَمِرّ فِي الْعَمَل لِاسْتِعَادَةِ أَرْضِها وَحُرِّيَّتِها الْمُنْتَزَعَة، لِفَكّ الْحِصَارِ، لِاطْلَاق أَسْرَاها، لِتَقْرِير الْمَصِير، لِلسِّيَادَةِ الحقيقية وَالتَّحرِير، للعَيشِ، للحَيَاة، ولا يُخيفُنا أن يكونَ الموتُ الأكرمُ والشهادةُ المقدسةُ حُسنَ المصير، فللجهادِ الدامِي لغتُهُ أيضًا في تقريرِ المصير، ورجاؤنا باللهِ العَليِّ العَظيمِ أكبرُ مما يظنُّون، واكثرُ مما يَعرفُون.

هُنَا يَقِفُ الْتُرَابُ يخاطبُ نَفْسَهُ، وَكَأنّمَا كَان يُوَجِّه خِطَابَهُ إلَى الْأَرْضِِ وَالسَّمَاءِ، يَقُول: "مَا فَائِدَتِي إذا لَم يَكُن فِي قَلْبي الْحَمَاسُ وَالْجِهَادُ  وَالِاهْتِمَام بِالْقِضِيَّة، مَا فَائِدَتِي إذا لَم يَكُن فِي نَفْسي الاشْتِيَاق لِرُؤِيَةِ أَرْضي وَشَعبي عزيزًا مَرَّةً أُخْرَى في حضنِ الحريةِ الكريمةِ وفي حصنِها."

خِطَابُ التُرَابِ، في غزّة، المجبولُ بالدمِ الزاكي وبأشلاءِ الأطفالِ وبصيحاتِ النساءِ، وبإرادةِ الشبابِ المُدافِعِ عن الأرضِ والعِرضِ، يَتَعَهَّدُ بِأَن يَكُون جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِن هَذَا الْتَارِيخ، القائمِ أساسًا على التَّضْحِيَةِ والفِداءِ والعَطاءِ. يُعِلِنُ أَنَّه سَيَكُونُ شَاهِدًا عَلَى الْعَزْمِ الصّلْبِ وَالإِرَادَةِ الْحَدِيدِيَّةِ لِلشَّعْبِ الْفِلِسْطِينِي فِي غزّةَ في الدِّفَاعِ عَن إنْسَانِه وَأَرْضهِ وَكَرَامَتِهِ، مَهْمَا غَلَتِ التَّضحِياتُ، وقد غَلَت، غَلَت كثيرًا. تقبلَ اللهُ يا غَزّة، ومَنّ عليكُم بالنّصرِ العظيم.

د.غَازِي قَانْصُو


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل