مقالات مختارة
التداعيات الاقتصادية لعملية "طوفان الأقصى" ستظل ترافق "إسرائيل" لسنوات طويلة، وإن تمكّنت من استعادة السيطرة على غلاف غزة في وقت قصير أو طويل.
بعض تلك التداعيات ستتحول إلى ندبة عميقة يصعب محوها أو تجاوزها مستقبلاً، ذلك أن ما حاولت "تل أبيب" ترويجه خلال السنوات السابقة على صعيد تشجيع هجرة اليهود إليها واستقطاب الاستثمارات الأجنبية بات بحكم المنتهي لفترة طويلة. وعلى الأقل، فإن الكيان لن يستعيد صورته الاقتصادية السائدة قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
معظم التوقعات تذهب إلى تأكيد أن الخسائر الاقتصادية للكيان الصهيوني من جراء عملية "طوفان الأقصى" ستكون كبيرة وعميقة. وإذا كان من المبكر تقدير حجمها وتوزعها القطاعي، فيمكن استعراض بعض جوانبها المباشرة وغير المباشرة على قطاعاتها وآفاقها المستقبلية.
على الأمد الطويل
رغم أهمية الخسائر الاقتصادية والاجتماعية التي ألحقها عناصر المقاومة الوطنية الفلسطينية بالمنشآت العسكرية والمستوطنات الصهيونية لحظة اقتحامها وتحريرها خلال اليوم الأول من العملية أو عبر عمليات القصف الجوي، وهي خسائر ليست بسيطة من حيث أثرها في الاقتصاد الصهيوني ومستوطنيه، فإن تبعاتها التي ستتبلور خلال الفترة المقبلة ستكون الأكثر أهمية لعدة أسباب، منها ما يلي:
- تطور العمليات العسكرية للمقاومة الفلسطينية وتوسيع دائرة استهدافها لتشمل منشآت ومستوطنات جديدة، فمن المتعارف أن استراتيجية المواجهة لدى حركات المقاومة لا تجعلها ترمي جميع أوراقها دفعة واحدة، وعادة ما تحتفظ بمفاجآت خاصة لمنع العدو من التقاط أنفاسه أو كسب المعركة، فكيف سيكون الحال مع هذه العملية الاستثنائية؟ وماذا لو امتدت عمليات المقاومة لتشمل آبار الغاز في البحر المتوسط أو محطات الكهرباء ومصافي النفط؟ إذاً، الكيان الصهيوني سيكون في مواجهة خسائر اقتصادية متدحرجة.
- اضطرار الكيان الصهيوني خلال الفترة المقبلة إلى تخصيص ميزانية جديدة وكبيرة لمواجهة أعباء الحرب العسكرية والاقتصادية والاجتماعية من جهة، ولتنفيذ استراتيجية جديدة تحاول تعويض ما مُني به من فشل ذريع خلال هجوم المقاومة من جهة ثانية.
ولا شك في أن زيادة حجم الإنفاق العسكري ستكون على حساب اعتمادات قطاعات إنتاجية وخدمية، في وقت يعاني الاقتصاد الصهيوني صعوبات عدة منذ ما قبل الاحتجاجات المناهضة للتعديلات القضائية وخلالها.
- طول فترة الإجراءات القسرية التي اضطرت حكومة الاحتلال إلى اتخاذها تحت ضغط عمليات "طوفان الأقصى"، من قبيل وقف شركات الطيران رحلاتها المتجهة إلى المطارات الصهيونية، وإعلان حالة الطوارئ المدنية في عموم المستوطنات الصهيونية، وفرض حظر التجوال العام، وما إلى ذلك من إجراءات من المؤكد أنها ستؤدي إلى وقوع خسائر اقتصادية واجتماعية مباشرة وغير مباشرة.
- الإجراءات الأمنية واللوجستية المستقبلية المرتقبة التي سوف تتخذها "تل أبيب" متأثرة بعقدة الخوف من تكرار عملية "طوفان الأقصى". ووفقاً للتصريحات الإسرائيلية الصادرة في اليوم الأول للعملية، فإن هذه العقدة باتت تلازم مسؤوليها ومستوطنيها.
وبناء عليه، فإن تنفيذ مثل هذه الإجراءات سيرتب تكاليف مالية كبيرة على حكومة الاحتلال أو سيكون على حساب أنشطة وفعاليات وإجراءات أخرى، ما يعني أن عامل الأمن عاد من جديد ليفرض نفسها أولويةً تتقدم على النشاط الاقتصادي في الكيان.
طبعاً، يأتي هذا كله فيما لا تزال المعركة في يومها الأول. وتالياً، فإن الوضع قد يصبح أكثر تعقيداً مع اضطرار الكيان الصهيوني إلى الدخول في مفاوضات لتبادل الأسرى وعقد اتفاقات تهدئة لن تكون هذه المرة مجانية ولن تكتفي بتثبيت الوضع الحالي، إنما سيكون عليه تقديم تنازلات كثيرة، وهذا في حال لم تفتح جبهة جديدة ضد الكيان الغاصب، سواء كانت داخلية أو خارجية.
مباشرة وغير مباشرة
وكما هي حال جميع الانتفاضات التي عاشتها الأراضي العربية المحتلة، فإن هناك قطاعات اقتصادية واجتماعية في "إسرائيل" ستكون أكثر عرضة للخسارة المباشرة والسريعة، فيما خسائر قطاعات أخرى ستحتاج إلى فترة حتى تظهر تأثيراتها.
وفي الوقت الّذي ستكون قطاعات كبيرة، كالصناعة والسياحة والبورصة والخدمات المالية والنقل الجوي البحري والبناء وغيرها، معرضة للتوقف شبه التام، إما خوفاً من استهدافها وإما نتيجة تراجع عملها بفعل تأثير المخاوف الأمنية، فإن هناك قطاعات أخرى، كالتجارة والخدمات والطاقة والزراعة وغيرها، لن تظهر خسائرها إلا مع مرور الوقت واستنزاف الكيان الصهيوني إمكانياته وموارده في هذه القطاعات.
الأمر هنا لا يقتصر على قيمة الأضرار والخسائر المباشرة التي لحقت وستلحق بهذه القطاعات، إنما بالخسائر غير المباشرة المتمثلة بفوات المنفعة الاقتصادية على المدى القريب والبعيد، والتي كان يمكن تحقيقها فيما لو لم تحدث عملية "طوفان الأقصى".
اجتماعياً، وإلى جانب الخسارة الكبيرة في الأرواح البشرية، التي ربما تكون الأثقل بالنسبة إلى الكيان منذ نهاية التسعينيات، فإن المجتمع الإسرائيلي سيكون في مواجهة تبعات خطرة للمؤشرات التالية:
- ارتفاع معدلات البطالة نتيجة توقف المنشآت الصناعية والسياحية والخدمية وخروج بعضها عن العمل جزئياً أو بشكل تام.
- زيادة أعداد المستوطنين المحتاجين إلى الدعم والمساعدة بغية تلبية احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والدواء وغير ذلك.
- نشوء ظاهرة النزوح الداخلي للمستوطنين الهاربين من مناطق غلاف غزة وما ينجم عنها من آثار اقتصادية واجتماعية ونفسية في شريحة واسعة من المستوطنين الصهاينة.
- ارتفاع ظاهرة الإصابة بالصدمات والأمراض النفسية بين عموم الصهاينة، وغالباً ما تستمر هذه الإصابات لفترات زمنية ليست قصيرة.
- انهيار مؤشرات الرأسمال الاجتماعي من حيث فقدان الشعور بالأمان والثقة، والتي تضاف إلى جملة ما يعانيه المجتمع الإسرائيلي من انقسام وتشرذم وفقدان للثقة.
- التوقعات بزيادة معدلات الجريمة والانتحار والإحباط واليأس في ضوء ما خلفه الفشل الأمني والعسكري الإسرائيلي من انعدام للثقة والأمان داخل المجتمع الصهيوني.
التطبيع العربي
لكن ماذا عن مستقبل التطبيع الاقتصادي العربي مع الكيان الصهيوني؟
كما هو معلوم، فإن التطبيع الاقتصادي العربي مع الكيان الصهيوني شهد خلال العامين الأخيرين توسعاً كبيراً، وذلك على خلفية إبرام عدد من الدول العربية اتفاقيات تطبيع مع الكيان الصهيوني، ودخول دول أخرى مرحلة التطبيع الاقتصادي غير المعلن.
للأسف، من غير المتوقع أن يتأثر هذا التطبيع بتداعيات عملية "طوفان الأقصى"، بالنظر إلى أن الفترة التي سبقت العملية شهدت اعتداءات متواصلة من المستوطنين على المسجد الأقصى والمصلين فيه، ووصلت أحياناً إلى حد شتم الرسوم الكريم (عليه الصلاة والسلام). ومع ذلك، لم تبادر الدول المطبعة خلال تلك الفترة إلى اتخاذ إجراءات بحق "تل أبيب" أو حتى مطالبتها بالكف عن هذه الممارسات واحترام المقدسات الإسلامية.
لذلك، ليس علينا أن نتوقع مثل هذه الإجراءات في وقت هناك عربياً من يساوي بين المقاومة و"جيش" الاحتلال، وجل ما يطلبه في هذه الوقت هو "التهدئة وضبط النفس"، لكن مع تحول "إسرائيل" إلى كيان غير مستقر وغير آمن، فإن بعض مشاريع التطبيع المنتظرة يمكن أن تتأثر بشكل أو بآخر. لننتظر ولنرَ ما ستحمله أخبار انتصارات المقاومة الوطنية الفلسطينية في الأيام المقبلة.
زياد غصن ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً