الثبات - مقالات
الإعلام المعاصر وزَعزَعةُ العقائد
(زعزعة الثقة بكتب السُّنَّة النَّبوية)
الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه، وصلى الله وسلم وبارك على خِيرَة خَلْقه ومصطفاه محمد بن عبد الله وعلى آله أهل وَلَاه، وعلى صحابته والتابعين وعَنَّا معهم.
وبعد: فممَّا يَقُضُّ مَضْجع كل غيور، ويُقلقُ كلَّ محبٍّ وارِث، ما دَهَى كثيراً من البيوت من تكديراتِ وتعكيراتِ (الإعلامِ) بوسائله وسُبُله الجديدات، وتلبيساته الشيطانيات على الحديث الشريف لصاحب القَدر المنيف! وهذا من أهم ما كُدِّر في شؤون الاعتقاد، وزعزعة الأصول!
ولكلِّ أوانٍ مكايدُ للشيطان، ومِنْ أَنْكَى المكايد اليوم التَّشكيك في السُّنَّة النبويةِ الممثَّلة بكتبها الشهيرة ومراجعها المعروفة؛ فإذا كان مشهوراً بين العامَّة والخاصَّة أنَّ أصحَّ كتاب بعد كتاب الله هو صحيح الإمام محمد بن إسماعيل البخاري - رحمه الله - وهو رَمْزُ السُّنَّة؛ فإنَّ أَخْصَرَ طريق لهَدْم هذا الأصل والتَّعفية على آثاره هو الغَضُّ من قَدْر البخاري، والتهوين من سُمْعةِ وحُرْمة كتابه!
فكما غَبَّر مَنْ غبَّر على الإمام البخاري، وكتابه الصحيح فعلينا أَنْ نَذْكُرَ ما قاله العلماء الثِّقات عن الإمام وكتابه، ودَحْض الشُّبَه!
ولمَّا كان مَبْنى البحث هذا على الإيجاز فهذا معتصرٌ يَرُدُّ الاعتبار لعَلَم من مشاهير أهل الاستبصار والادِّكار: في تهذيب التهذيب للحافظ أبي الفضل ابن حجر العسقلاني في ترجمة الإمام البخاري [1/508 - 511]: قول محمد بن إسماعيل البخاري: كتبتُ عن ألف شيخ وأكثر، ما عندي حديث إلا وأذكر إسناده.
هذا ونبوغ الإمام كان مبكراً يُبيّنه قولُ أبي بكر الأعين: كَتَبنا عن محمد بن إسماعيل على باب محمد بن يوسف الفِريابي وما في وجهه شَعْرةٌ.
وعن وَرَعه وتحرِّيه لإثبات ما اختاره يكفي قولُ الكُشميهني: سمعتُ الفِرَبري يقول: قال لي محمد بن إسماعيل: ما وضعتُ في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلتُ قبل ذلك وصلَّيت ركعتين، ويؤكد حفظهُ وغَوْصَه في علم الحديث أنَّ الإمام مسلماً صاحب الصحيح المشهور كان بين يديه كالصبيِّ.
قال الحاكم سمعت أبا الطيب يقول: سمعت ابن خزيمة يقول: ما رأيتُ تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحفظ له من البخاريّ.
قال: وسمعت أبا عبد الله الحافظ يعني ابن الأخرم يقول: سمعت أبي يقول: رأيتُ مُسْلمَ بن الحجاج بين يدي البخاري وهو يسأله سؤال الصبيّ المتعلِّم.
والإمام البخاري هو الرأسُ في الفقه؛ يقول يعقوب بن إبراهيم الدَّورقي: محمد بن إسماعيل فقيهُ هذه الأمة!
وأختم بقول أبي العباس الدُّغولي: كَتَبَ أهل بغداد إلى محمد بن إسماعيل:
المسلمون بخير ما بقيتَ لهم ... وليس بعدك خيرٌ حين تُفْتَقَد
ومِنْ عَجَب أن بعضهم طَعَنَ على الإمام البخاري أنه أعجمي! فيقال: إن جُلَّ أئمة المسلمين كانوا من الأعاجم، بل هذا إمام العربية الجبل الراسخ: سيبويه! هو فارسي، ومات في الثالثة والثلاثين من عمره!!
وإن عَابَ بعضهُم على الإمام البخاري أنَّ في لِسَانه عِيٌّ فما ضرَّه ما دام أفهم الناس وأعلمهم؟!
وما عاب العلماء على إمام اشتهر بالعلم لحُبْسةٍ في كلامه، ولا عدَّوه مَنْقصةً كسيبويه والمبرِّد وشيخ شيوخ عصره صفيّ الدين الهندي وأمير الشعراء أحمد شوقي وغيرهم(
وظنَّ بعضهم أنه سيهدم بنيانَ صحيح الإمام البخاري لأن الإمام الدَّارقطني - رحمه الله - تكلَّم في بضعٍ وثمانين من رجال البخاري، وما عرفوا أن في توضيح الإشكالات في فَتْحِ ابن حجر - رحمه الله - ما يَرْفَعُ اللَّبْسَ ويدحض ما ظنّ أنه غَاضٌّ من قَدْر الكتاب، ثم إنها مسائل يقف عليها، ويَخْبُرُها أهلُ الفنّ؛ فما حَظُّ العامَّة منها إن قيل لهم علَّق بعضهم بكذا وكذا على رجال البخاري؟!
وإنْ جاء بعضُهم فظنَّ أنَّ اختياره لبعض أحاديث تعارض العقل _ في ظنِّه _ كحديث: "إذا وَقَع الذُّباب في إناء أحدكم فليغمِسْه كلَّه ثم ليطرَحْه - وفي رواية: لينزِعْه -، فإن في إحدى جناحيه شفاءً، وفي الآخر داءً" ظنَّ أنه بهذا هادمٌ صَرْحَ الصَّحيح؛ فهو في غاية الجهل؛ فقد أثبت علماء من غير المسلمين صِدْق ما جاء في الحديث الشريف وصدق الله تعالى: ﴿ وما ينطق عن الهوى ﴾ .
قال ابن حجر في شرحه للحديث وهو آخر أحاديث كتاب الطب في صحيح البخاري: ذكر بعضُ حذَّاق الأطباء أن في الذُّباب قوة سُمِّيَّة يدل عليها الوَرَم والحكَّةُ العارضة عن لَسْعِه، وهي بمنزلة السِّلاح له، فإذا سقط الذباب فيما يُؤذيه تلقَّاه بسلاحه، فأمر الشارع أن يقابل تلك السُّمِّيَّة بما أودعه الله تعالى في الجناح الآخر من الشفاء، فتتقابل المادَّتان فيزول الضرر بإذن الله تعالى.
ومِنْ عَجَبٍ أيضاً قول بعضهم: البخاري ثقة، ولكن زِيدَ في الكتاب بعد وفاته، وليست لدينا النسخة التي خطَّها البخاري بيده!!
فيقال ما نُقل كتابٌ كما نُقل صحيح الإمام؛ البخاري وكلُّ طَبَقة تقابلُ على مَنْ أخذتْ عنهم هكذا أكثر من ألف سنة!!
قال الإمام النووي - رحمه الله تعالى -: وأما الآخذون عن البخاري؛ فأكثر من أن يُحصروا، وأشهر من أن يُذكروا، وقد روينا عن الفِربري قال: سَمِعَ الصحيحَ من البخاري تسعون ألف رجل، فما بقي أحد يرويه غيري.
قال وروينا عن الحافظ صالح بن محمد جَزَرَة: قال كان البخاري يجلس ببغداد وكنت أستملي له، ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفاً.
وصدق سيدي الإمام قطب الدعوة والإرشاد عبد الله بن علوي الحداد - رحمة الله عليه - بقوله: طالعنا كتباً كثيرة ولم نَرَ أجمع منها! بعد أن ذكر: البخاري في الحديث، والبغوي في التفسير، وفي الفقه المنهاج، ومن الكتب الجامعة (إحياء علوم الدين).
فما تقول في دِقَّة هذا الإمام البخاري وشيخٌ من شيوخه: وهو عبد الله بن حمَّاد الآمُلي يقول: ودِدْتُ أني شَعْرةٌ في صَدْر محمد بن إسماعيل.
وأنا أُحيل هذا التوفيق للإمام ونَشْر علمه وكتابه لشؤون عليَّة وما في نَفْسه الزَّكية مِنْ أجلِّها تعظيمُ حرمة المسلم حيث قال: أرجو أن ألقى الله عز وجل ولا يطالبني أني اغتبت أحداً!.
ولصِدْقه قال: المادح والذَّام عندي سواء!
والخلاصة:
كيف تهتز ثقتنا بهذا الإمام وكتابه وأهلُ الفنّ؛ وأشهرهم بعده الإمام مسلم بن الحجَّاج - رحمه الله - قد جاءه مرَّة فقبَّل بين عينيه وقال: دعني أُقبّل رجْلّيك يا أستاذ الأستاذين، وسيِّد المحدثين، ويا طبيب الحديث في عِلَلهِ؟
ثم رأيت أن أختم في شجون الحَطِّ على صحيح الإمام البخاري - رحمه الله - بما ذَكَرَه العابثون الجاهلون في قضية سِحْر النبي صلى الله عليه وسلم وذِكْر الإمام البخاري لها!
ولا أنسى ذلك الشخص الذي انتهز هذا الموضوع قبل سنوات - وقد ضمَّنا مجلس - ليجعله تُكَأَةً للنَّيل من البخاري!
قال لي: أنا عاقل وأحترم عقلي، وليس كلُّ ما ذكرته كتب السُّنَّة صحيحاً حتى ولو البخاري، النبيُّ لا يُسحر! النبي لا يُسحر!
قلتُ: السحر كأي مرض، أثَّر في ظاهره -صلى الله عليه وسلم - وما حجزَ عن البلاغ ولا غيَّر ولا بدَّل! وهو عزاء لكلِّ من يُسْحر ماذا يصنع، وكلما زاد الابتلاء - والبلاءُ هنا على يد اليهود - كلما زاد الاعتلاء والتَّرقي في درجات الاصطفاء.
وأسوق من كلمات الإمام القاضي عياض - رحمه الله - في كتابه (الشِّفا) وقد جعل فصلاً في الرَّدِّ على من طعن في حديث السِّحر.. قال:
فقد استبان لك مِنْ مضمون هذه الروايات أن السِّحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه، لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنه إنما أثَّر في بصره، وحَبَسَه عن وطء نسائه، وطعامه، وأضعف جسمه وأمرضه؛ ويكون معنى قوله: (يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن) أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء! فإذا دنا منهن أصابته أُخْذة السحر فلم يقدر على إتيانهن كما يعتري من أُخذ واعتُرض.
ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشد ما يكون من السِّحر ويكون قول عائشة في الرواية الأخرى: (إنه ليُخيَّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله أو ما فعله) مِنْ باب ما اختل من بصره كما ذُكر في الحديث؛ فيظن أنه رأى شخصاً من بعض أزواجه، أو شاهد فِعلاً من غيره، ولم يكن على ما يُخيَّل إليه، لِمَا أصابه في بصره وضعف نظره، لا لشيء طرأ عليه في مَيْزه.
وإذا كان كذلك لم يكن فيما ذُكر من إصابة السحر له، وتأثيره فيه، ما يُدخل لَبْساً، ولا يَجدُ به الملحد المعترض أُنساً.
وأقول: غَيرتنا على كتب السُّنَّة والسيرة أيضاً جميعها متعيِّنة؛ لأن التشكيك فيها يؤدي للتشكيك في القرآن لأنها هي التي ذَكَرَتْ لنا فيما ذكرتْ جَمْعَ القرآن الكريم.
لكن أَفَضْنَا في شؤون كتاب البخاري لأنه أصحها؛ وأما قول الإمام الشافعي - رحمه الله - أصحها موطأ مالك فلأنَّ البخاري جاء بعده!
(بحث مقدم للملتقى الخامس عشر في تريم في 29 من ذي الحجة 1442 هـ)
محمد ياسر قضماني - نقلاً عن موقع نسيم الشام