مقالات مختارة
في تطور لافت، وضع رئيس الوزراء محمد شياع السوداني يوم السبت 2 أيلول/سبتمبر 2023 الحجر الأساس لمشروع الربط السككي بين العراق وإيران في منفذ الشلامجة في محافظة البصرة جنوبي البلاد، بحضور نائب الرئيس الإيراني محمد مخبر.
وأعلن المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء العراقي أن "المشروع هو حلقة من حلقات متعددة لنقل المسافرين وزائري العتبات المقدسة من المقرر أن تصل إلى محافظتي النجف وكربلاء"، وشدد على "أهمية مشروع الربط السككي في نقل المسافرين من إيران وبلدان وسط آسيا، فضلاً عن أهميته في تعزيز البنى التحتية لاقتصاد العراق وزيادة نموه.
وقد اعتبر النائب الأول للرئيس الإيراني محمد مخبر أن المشروع "يعد خطة استراتيجية لإيران والعراق، هي بمنزلة تحول في التجارة في منطقة الشرق الأوسط، وأنه يعتبر مكملاً للممرات الدولية للنقل، فضلاً عن أنه يربط شبكة السكك الحديدية للبلدين". ويعد تدشين هذا الخط دفعاً قوياً للتجارة بين العراق وإيران، ولتجارة العراق مع دول شرق آسيا، لوصلها بدول غرب آسيا والوصول بها إلى شرق المتوسط.
تنظر طهران إلى مشروع "شلمجة - البصرة" السككي على أنه ممر استراتيجي يربط الأراضي الإيرانية بالبحر الأبيض المتوسط عبر سوريا. عام 2016، بدأ الحديث عن إقامة هذا الخط الذي يفترض أن ينتهي في ميناء اللاذقية لينقل البضائع من باكستان أو ميناء تشابهار جنوب شرقي إيران، والبضائع التي تصل من الصين وآسيا الوسطى عبر القطار إلى منطقة سرخس في شمال شرقي إيران، ومنها إلى الموانئ السورية والبحر المتوسط عبر شبكة سكك الحديد العراقية، فضلاً عن نقل السلع من روسيا وأوروبا إلى العراق في إطار ممر الشمال/ الجنوب الدولي.
وتعطي إيران أهمية قصوى للمشروع، لكونه يربطها بالعراق وسوريا ومنطقة البحر المتوسط، وسيساهم في تحقيق تغيير كبير في المنطقة، وهي تعتمد بشكل كبير على دول الجوار في تسويق بضائعها، في محاولة للتقليل من تداعيات العقوبات الخانقة التي أعادت الولايات المتحدة فرضها في أعقاب انسحاب دونالد ترامب عام 2018 من الاتفاق النووي الموقع مع طهران عام 2015.
العراق خط الدفاع الأول عن إيران
ولهذا الخط أهمية تتجاوز البعد الاقتصادي إلى البعد الجيوسياسي بما يرتبط بالأمن القومي الإيراني؛ فلطالما اعتبر العراق خط الدفاع الأول عن إيران منذ أيام الدولة الأخمينية بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، مروراً بالدولة البارثية بين القرنين الثاني قبل الميلاد والثاني بعد الميلاد، وصولاً إلى الدولة الساسانية بين القرنين الثالث والسابع للميلاد.
وكان القادة الفرس غالباً ما يواجهون أعداءهم على أرض العراق لمنعهم من الانطلاق إلى الهضبة الإيرانية، وهو ما قاموا به مع الأباطرة الرومان في العديد من المناسبات، إذ كانت إيران تحتوي تقدمهم في العراق؛ ففي القرن الثاني الميلادي، في عهد الإمبراطور تراجان، أطلقت الإمبراطورية الرومانية حملة ناجحة ضد الإمبراطورية البارثية، تمكن خلالها تراجان من ضم بلاد ما بين النهرين إلى روما، إلا أنه لم يتمكن من العبور منها إلى الهضبة الإيرانية.
وعام 260 للميلاد، تم أسر الإمبراطور فاليريان الذي كان يحاول اجتياح العراق على يد الإمبراطور الساساني شابور الذي أسره قبل أن يعدمه. كذلك، فشل الأباطرة الرومان في القرنين الرابع والخامس في غزو بلاد فارس نتيجة احتواء تقدمهم في العراق، ومن ضمنهم الأباطرة جوليان المرتد وثيودوسيوس الثاني وجستنيان الأول.
وفي العصر الحديث، فإن إيران الإسلامية التي وجدت نفسها مستهدفة من الأميركيين منذ انتصار الثورة الإسلامية كان عليها أن تقاتل في العراق للدفاع عن نفسها. من هنا، نفهم تشجيع الأميركيين لصدام حسين على شن حرب ضد إيران بعد عام على انتصار الثورة، ونفهم لماذا دامت الحرب 8 سنوات؛ فقد كان الأميركيون يعون دروس التاريخ ويعرفون أن ضرب إيران يكون بالانطلاق من العراق نحو الهضبة الإيرانية.
كذلك، إن غزو العراق عام 2003 كان يهدف إلى فصل إيران عن سوريا وعزلها تمهيداً للانطلاق منه لضرب إيران في العمق. لذلك، عندما دعمت إيران المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأميركي، فإنها كانت تتبع الاستراتيجية نفسها التي اعتمدها القادة الفرس في العصور الغابرة بالدفاع عن إيران على أرض العراق.
نزوع إيران التاريخي للوصول إلى المتوسط
يعدّ الخط المزمع إنشاؤه تدعيماً للاستراتيجية الإيرانية القديمة بالوصول إلى شرق المتوسط. وبشكل عام، فإن الميول الجيوسياسية لإيران للوصول إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لها جذور تاريخية عميقة ومدفوعة بمزيج من اعتبارات القوة التاريخية والاستراتيجية والدينية والإقليمية. وتستمر هذه الاتجاهات في تشكيل قرارات السياسة الخارجية الإيرانية، ولها آثار كبيرة في الديناميكيات والاستقرار الإقليميين.
منذ أيام الأخمينيين وحتى اليوم، أظهرت إيران بالفعل ميلاً جيوسياسياً لتوسيع نطاق وصولها نحو شرق البحر الأبيض المتوسط؛ فخلال عهد الإمبراطورية الأخمينية (550-330 قبل الميلاد)، كانت إيران إمبراطورية شاسعة امتدت من شرق البحر الأبيض المتوسط إلى نهر السند في الشرق.
وقد سعى الأخمينيون، بقيادة كورش الكبير وداريوس الأول وزركسيس الأول، إلى توسيع إمبراطوريتهم غربًا، لتصل إلى مصر واليونان، ما سمح لهم بممارسة نفوذ كبير على منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، وخصوصاً مع إقامتهم شراكة مع الفينيقيين الذين بقوا سادة المتوسط حتى القرن الثاني قبل الميلاد.
وقد كان أحد أسباب الحروب الفارسية الرومانية هو سعي الفرس للوصول إلى المتوسط الذي كان الرومان يعتبرونه بحيرة رومانية. وكان هذا هو ديدن الدول التي قامت في الهضبة الفارسية بعد ذلك، وصولاً إلى الدولة الصفوية بين القرنين السادس عشر والثامن عشر، التي كانت تحارب الدولة العثمانية لأنها كانت تقف عقبة دون وصولها إلى شرق المتوسط.
وفي العصر الحديث، فإن أحد أسرار العلاقة التي أقامتها إيران الإسلامية مع سوريا العلمانية كان يكمن في أن هذه العلاقة تسمح لإيران بالوصول إلى شرق المتوسط.
وبحكم أنها كانت قاعدة لعدد من الدول والإمبراطوريات، فإن إيران تتمتع بتراث تاريخي وثقافي غني في المنطقة. كان للغة والثقافة الفارسية تأثير كبير في دول مثل العراق وسوريا ولبنان. ويخلق هذا التأثير التاريخي إحساسًا بالارتباط التاريخي والإرث، ما ينشط حركة إيران في شرق البحر الأبيض المتوسط.
كذلك، تنظر إيران إلى شرق البحر الأبيض المتوسط كجزء من استراتيجيتها الجيوسياسية الأوسع. ومن خلال توسيع حضورها في المنطقة، يمكن لها أن تؤسس موطئ قدم في العالم العربي يشكل منطلقاً لها للعلاقة مع العرب الذين أثروا في تاريخ إيران وساهموا في تكوين هويتها الدينية والثقافية بعد القرن السابع ميلادي.
كذلك، إن شرق البحر الأبيض المتوسط هو موطن لعدد كبير من السكان المسلمين الشيعة، وخصوصاً في دول مثل لبنان وسوريا. تسعى إيران، باعتبارها دولة ذات أغلبية شيعية، إلى الحفاظ على العلاقة مع المجتمعات الشيعية في المنطقة، وخصوصاً شيعة جبل عامل في جنوب لبنان، ولا سيما أن علماء هذه المنطقة كان لهم الدور الأبرز في تحويل إيران إلى المذهب الشيعي الاثني عشري بعد القرن السادس عشر. كذلك، من خلال توسيع نطاق وصولها إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، تستطيع إيران توسيع نطاق حركتها، وتعزيز أمنها، واكتساب عمق استراتيجي.
شرق سوريا من وجهة نظر واشنطن
في المقابل، فإن الولايات المتحدة تسعى لمحاصرة إيران عبر منعها من الوصول إلى شرق المتوسط عبر الفصل البري بين سوريا والعراق، وذلك من خلال احتلال منطقة شمال شرقي سوريا ومنطقة التنف. وبعد انسحاب قوات الاحتلال الأميركية من العراق عام 2011 نتيجة الضربات التي تعرضت لها على يد المقاومة العراقية، فإن واشنطن أبقت عدداً من المستشارين والمدربين الأميركيين بذريعة تقديم المشورة للقوات العراقية.
وقد استغلت واشنطن انتشار "داعش" في شرق سوريا وغرب العراق لإعادة نشر قواتها في العراق في عدد كبير من القواعد العسكرية. وقد ارتفع عدد القوات الأميركية في العراق إلى عشرات الآلاف تحت مسمى أنهم مستشارون عسكريون، وبدأ هؤلاء بدعم الجماعات المسلحة ضد الدولة السورية في شرق سوريا، وعلى رأسها جماعة قسد.
وعام 2014، بدأت الولايات المتحدة بالقيام بضربات جوية في سوريا بذريعة مكافحة "داعش"، وذلك من دون طلب الإذن من الحكومة السورية. وقد قامت القوات الأميركية باحتلال المناطق الاستراتيجية، مثل حقول النفط، بذريعة حرمان "داعش" من الإيرادات وتوفير الموارد لشركائها المحليين.
وقد قُدر عدد القوات الأميركية في شرق سوريا بـ2000 جندي في عشرات المواقع والقواعد العسكرية. وعام 2019، ونتيجة اجتياح القوات التركية لعدد من المناطق في شمال سوريا، فإن القوات الأميركية عدلت تموضعها لتركز أكثر على الحدود السورية العراقية لمنع التواصل البري بين البلدين.
وعبر منع التواصل البري بين سوريا والعراق، فإن الولايات المتحدة تهدف إلى احتواء ما تعتبره "تمدد النفوذ الإيراني" في المنطقة، وخصوصاً أن إيران من الداعمين الرئيسيين للحكومة السورية. وقد انطلقت من العراق لتأمين وصول إمداداتها إلى الحكومة والشعب السوريين. لذلك، من وجهة نظر المسؤولين الأميركيين، إن احتلال القوات الأميركية أجزاء من شرق سوريا ومنع التواصل البري بين سوريا والعراق يهدف إلى "عرقلة تدفق الأسلحة والمقاتلين والأموال إلى سوريا".
كذلك، إن الولايات المتحدة تسعى عبر احتلالها أجزاء من شرق سوريا لتقديم الدعم لقوات قسد والجماعات المسلحة التي تقاتل الدولة السورية، وذلك لمنعها من استعادة سيادتها على شمال شرقي البلاد. وتسعى واشنطن عبر منع التواصل البري بين سوريا والعراق، وبالتالي إيران، إلى دعم حلفائها مثل الكيان الصهيوني والأردن ودول الخليج التي أعلنت أن إيران تشكل تهديداً لها.
لذا، إن منع التواصل البري يهدف إلى "حماية مصالح هؤلاء الحلفاء الإقليميين وحماية حدودهم من الأنشطة المحتملة المزعزعة للاستقرار". كما تسعى واشنطن عبر الفصل بين العراق وسوريا إلى دعم أجندتها القاضية بتقسيم الهلال الخصيب، بما فيه العراق وسوريا ولبنان، بذريعة الفدرالية والتعددية وحماية الأقليات.
التصعيد الأميركي مؤخراً
الجدير ذكره أن الولايات المتحدة بدأت مؤخراً بتصعيد التوتر في شرق سوريا عبر زيادة حشودها العسكرية هناك، وعبر إعادة توزيع الأدوار بين الميليشيات الكردية المنضوية في قسد والعشائر العربية التي عبرت عن امتعاضها من الهيمنة الكردية في شمال شرقي سوريا بدعم من واشنطن.
وتهدف واشنطن إلى تأمين دعامة أقوى لحضورها في شرق سوريا وتدعيم احتلالها غير الشرعي للمنطقة، بعدما ثبت عجز القوات الكردية في السيطرة على المنطقة التي تعتبر موطن العشائر العربية بامتياز. كذلك، فإن من شأن هذه الخطوة أن تلقى رضا تركيا التي تخشى قسد التي تعتبر الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني الذي يسعى لفصل شرق تركيا.
ويأتي هذا التصعيد بعد زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني دمشق ولقائه الرئيس السوري بشار الأسد وتأكيدهما العمل على تدعيم العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين، وخصوصاً أن العراق كان من الدول العربية القليلة التي لم تقطع علاقاتها بدمشق خلال الحرب التي شنت ضدها بدءاً من آذار/مارس 2011.
وقد خشيت واشنطن أن يؤدي هذا إلى تدعيم العلاقات العراقية السورية بما يدعم التواصل البري بينهما ويصل بين سوريا وإيران، في وقت كانت مشاريع الربط بالسكة الحديد قائمة على قدم وساق بين العراق وإيران.
ومن المتوقع أن تزيد حدة التوتر في شرق سوريا، وأن تترافق مع دعم واشنطن لنشاط الجماعات الإرهابية المسلحة، وهو ما تجسد مؤخراً بتفعيل دور "داعش" في البادية السورية، وحتى في لبنان، الذي تسعى واشنطن لجعله خاصرة نازفة لسوريا من جهة الغرب، تشتت أنظار دمشق عن التركيز على دعم المقاومة الشعبية السورية ضد الاحتلال الأميركي، كما تلهي حزب الله في لبنان عن تركيز جهده ضد قوات الاحتلال الأميركية في سوريا، وأيضاً منع إيران من التواصل بسلاسة عبر البر مع حليفها حزب الله اللبناني الذي يشكل الرئة التي تتنفس منها المقاومة الفلسطينية.
جمال واكيم ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً