"لقد بدأت الحرب الثقافيّة"... ولا تزال مستمرّة

السبت 29 تموز , 2023 08:32 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

لم يعد خافياً على أحد في العالم أنّ الولايات المتحدة الأميركية تخوض حرباً ثقافية تستهدف أعداءها ولا تستثني أصدقاءها. أخطر ما في هذه الحرب هو استهداف هوية الشعوب والمجتمعات والدول الأخرى. يخوض الأميركيون حروبهم هذه انطلاقاً من قناعة راسخة مفادها أنّ تفوّق الهوية الأميركية وهيمنتها على ما عداها من هويات يمهّد الطريق أمام مصالحها السياسية والاقتصادية.

لذلك تمارس واشنطن حربها هذه بانتظام ومن دون أيّ تراجع منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فتوجّه ضرباتها على جبهة الثقافة العريضة بما تحويه من قيم ومبادئ ومفاهيم وتقاليد، وعادات ومعتقدات ومقاييس ومعايير ونمط حياة وعلوم وأفكار وفنون وآداب. وهذه مجتمعة هي العناصر الثقافية التي تشكّل الوعاء الذي يستوعب ويجسّد الهوية.

ولعل تكليف واشنطن لجهاز مخابراتها الـCIA بهذه المهمة منذ العام 1947 يعكس أهمية وخطورة المهمة. أعطيت لجهاز المخابرات صلاحيات هائلة ومطلقة ليفعل ما يشاء من أجل صناعة صورة الولايات المتحدة الأميركية في عقول العالم ووعيهم. وقد أتقنت وكالة الاستخبارات الأميركية القيام بالمهمة من دون أيّ روادع أخلاقية أو إنسانية.

ولأنّ المعرفة والاطلاع على المعطيات التاريخية الدقيقة هي إحدى وسائل مواجهة الحرب الثقافية، كما أكد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مؤخّراً في خطابه الذي خصصه لطرح هذه القضية، فإن من المفيد الاطلاع على محطات بارزة من تاريخ هذه الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة الأميركية في العالم.

فمعرفة المحطات والوقائع وأساليب العمل والثوابت والمتغيّرات في هذه المواجهة ضروري لأخذ الدروس والعبر، وللتعرّف إلى المخاطر والعمل على تشكيل الحصانة.

لا شكّ أنّ ما بعد الحرب العالمية الثانية هو محطة فاصلة في هذا المجال. فإلى جانب إرساء آليات الهيمنة السياسية من خلال مجلس الأمن، والهيمنة الاقتصادية من خلال المؤسسات التي أفرزها مؤتمر بريتون وودز، انطلقت محاولات "هندسة العالم ثقافياً". 

وتمّ إنشاء "منظّمة الحرية الثقافية"freedom congress for cultural التي كانت بمثابة وزارة غير رسمية للثقافة الأميركية، أو لتكون "الزمّار الذي تدفع له وكالة الاستخبارات المركزية ثمن ما تطلبه منه من ألحان" بحسب ما ورد في كتاب "الحرب الباردة الثقافية: من الذي دفع للزمّار؟" للباحثة البريطانية فرنسيس ستونر سوندز.

لم تكن الحرب الباردة بالنسبة للأميركيين حرباً عسكرية وسياسية غير مباشرة بينها وبين الاتحاد السوفياتي فقط. يعرّف أحد تقارير الوكالة الحرب الباردة الصادر في العام 1947 بأنها "صراع نفسي من أجل القبول بالوسائل السلمية واستخدام الدعاية لإضعاف المواقف المعادية"، ويشير التقرير إلى أن "السلاح العملي في هذه المواجهة هو الثقافة"... ويختم التقرير تعريفه بالعبارة التالية "لقد بدأت الحرب الثقافية".

بالفعل، هذه الحرب لم تقل ضراوة وشراسة عن الحروب العسكرية والاقتصادية التي شنتها واشنطن على العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي دفعت ثمنها البشرية دماءً ودموعاً ودماراً وفقراً. حرب لم توفّر أيّ سلاح ممكن إلا واستخدمته.

فبعد أن سكت هدير المدافع وأزيز الطائرات ودوي القصف "أخرجت الترسانة أثقالها الثقافية: الصحف والمجلات والإذاعات والمؤتمرات، ومعارض الفن التشكيلي والمهرجانات الفنية والمنح والجوائز"، بحسب ما ورد في كتاب سوندز الذي كشف أسماء أدباء مشهورين بعضهم حاز جائزة نوبل، ومفكّرين وفلاسفة طبعت أفكارهم القرن العشرين. 

معظم هؤلاء يساريون وشيوعيون سابقون انقلبوا على قناعاتهم لأسباب مختلفة، وانخرطوا من دون أيّ خجل في مشاريع وبرامج "ثقافية" يشرف عليها ضباط للمخابرات الأميركية. من بين هؤلاء سارتر وسيمون دي بوفوار وأندريه جيد وجورج أورويل، إضافة إلى موسيقيين وممثلين ورسامين عملوا مقابل مكافآت مالية ومواقع، وشكّلوا الجيش الثقافي الذي يعمل في خدمة مصالح الولايات المتحدة الأميركية.

تضيء سوندز على تشكيل "شبكة من المثقّفين يعملون تحت إشراف السي أي إيه لمحو فكرة أنّ (أميركا صحراء ثقافية)، ولزرع فكرة جديدة مؤدّاها أنّ العالم في حاجة إلى سلام أميركاpax Americana وإلى عصر تنوير جديد، وأنّ ذلك كله سيكون اسمه القرن الأميركي".

ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب أنه مع انتهاء الحرب العالمية الثانية كان الاتحاد السوفياتي يتمتّع بنوع من التقدّم الثقافي عالمياً على الولايات المتحدة الأميركية. نجحت الدعاية السوفياتية في تصوير الأخيرة "كأنها صحراء ثقافية ودولة مصانع اللبان وقيادة السيارات المتهورة والعنف"، كما ركّزت هذه الدعاية على مشكلة العرق في أميركا ممّا يدفع إلى الشكّ في قدرة الولايات المتحدة الأميركية على تقديم نفسها كرمز للديمقراطية التي تزعم أنها تقدّمها للعالم.

إلّا أنّ الردّ الأميركي على هذه النقطة تحديداً تمثّل بحملة "ترويج للفنانين السود"، فهذه السياسة أصبحت أولوية ملحّة أمام المسؤولين الأميركيين عن الحرب الباردة الثقافية.

أولوية ثانية برزت في تلك المرحلة تمثّلت بالاهتمام الفائق بطلاب الجامعات. وكمؤشّر ذي دلالات واضحة اختار الأميركيون جامعة هارفرد ومناسبة افتتاح الموسم الدراسي للعام 1947 ليطلق منها رئيس أركان الجيش الأميركي ووزير الخارجية لاحقاً الجنرال "مارشال" مشروعه الشهير الذي شكّل لحظة فارقة ونقطة تحوّل في مصير أوروبا بعد الحرب. 

تقول سوندرز "لم تكن مصادفة أن يقرّر أن يلقي خطابه من الجامعة وليس من أيّ منبر حكومي رسميّ"، فقد كان الطلاب من وجهة النظر الأميركية هم "النخبة التي عليها مواجهة الظلام الشيوعي".

وبالتوازي مع حلف الناتو الذي شكّل الدرع العسكرية لأميركا وأوروبا في وجه السوفيات، كان هناك "ناتو ثقافي" يعمل على تأسيسه، هدفه الأساسي هو برنامج ضخم للمنح الطلابية والاتحادات الشبابية، كلّ ذلك استجابة لتوجيهات الـ CIA. كانت تلك المنظمات هي "الحافة الحادة لحملة دعاية واختراق خطط لها لنزع ما سمي " السم" عن الحركات السياسية اليسارية.

وانطلاقاً من أنّ الكتاب يمكن أن يكون شيئاً عظيماً في مثل هذه المعركة، تمّ البدء في برنامج ضخم للنشر كان هدفه الأساسي تقديم الصورة الأميركية بأكثر الوسائل تأثيراً، فقدّمت الإغراءات للناشرين. وبفضل هذا البرنامج المكثّف للنشر "تحسّنت كثيراً صورة الأميركيين في ألمانيا بعد الحرب وفي غيرها من الدول الأوروبية"، كما تمّ الترويج لكتّاب أوروبيّين كجزء من برنامج شديد العداء للشيوعية، وتكثر في هذا المجال أسماء الأدباء والكتّاب الذين ترعرعوا تحت "جناح سلطة الاحتلال العسكري الأميركي في أوروبا".

لا تتوقّف المبادرات الجادة لسلطة الاحتلال الأميركي العسكري عند هذا الحد. يمتلئ الكتاب بالمعلومات والوثائق التي تظهر دور جهاز الاستخبارات الأميركي الأشهر في استخدام مجالات الموسيقى والرسم والصحافة، وكلّ مكوّنات الفن الحديث كسلاح في حربهم الضروس. 

وإذا كان هذا هو المصير الثقافي لأوروبا المنتصرة في الحرب، فإنّ مصير اليابان التي منيت بهزيمة عسكرية مدوية ومهينة، هو شنّ الأميركيين حرباً قاسية على الهوية اليابانية. وهو ما عبّر عنه عالم الاجتماع الياباني، شونيا يوشيمي، بـ "أمركة الآذان والعيون".

استخدم الأميركيون الأدوات نفسها الواردة في كتاب "الحرب الباردة الثقافية" مع إضافات تتناسب وساحة المعركة الجديدة أي المجتمع اليابانيّ. شكّلت اللغة الإنكليزية رأس حربة في المواجهة، فأصدرت إحدى دور النشر اليابانية وبإشراف من الاحتلال الأميركي كتيّباً عن الحوار الإنكلو-ياباني، ليتعلّم اليابانيون الإنكليزية. 

الملاحظ أنّ المجتمع الياباني بدا طيّعاً ومتجاوباً إلى أبعد الحدود.  فقد بيع من الكتاب أكثر من ثلاثة ملايين ونصف مليون نسخة في أسابيع. وبثت الإذاعة اليابانية يومياً برنامجاً صباحياً لتعليم اللغة الإنكليزية، وتمّ إنتاج فيلم "من أجل حياة منزلية رائعة" يسخر من الهندسة المعمارية التقليدية في اليابان مقابل تقديم البيت الأميركي كمكان نموذجي للعائلة السعيدة.

ليس هذا فقط، أطلقت الأسماء الأميركية على الشوارع اليابانية وبدأ الجنود الأميركيون المحتلون بنشر نمط الحياة الأميركيّ من الطعام إلى الموسيقى واللباس. كذلك انتشرت الأزياء الأميركية خاصة عند النساء اليابانيات اللواتي تخلّين عن الزي التقليدي لمصلحة الجينز والفساتين الخفيفة. 

وقد نجحت هذه الحملة في الوصول إلى فصل اليابانيين "للعناصر الثقافية للمحتلّ عن العنف العسكري الأميركي". كما أسست هذه الجبهة الثقافية على مرّ السنين لواقع أشارت إليه إحدى دراسات يوشيمي الميدانية في العام 2012.

عنوان هذه الدراسة معبّر ولا يخلو من الدلالات "مع أميركا/ ضدّ أميركا: اللاوعي السياسي في يابان ما بعد الحرب"، والتي أظهرت أن" 80% من الشعب الياباني مؤيّد تماماً للسياسيات الأميركية ومتبنٍّ للثقافة الشعبية الأميركية ونمط العيش والهوية".

وهنا بيت القصيد، استهداف الهوية الذي يشكّل العنوان الأخطر اليوم على جبهة الحرب الثقافية.

هويتنا اليوم مستهدفة كما حذّر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير.

والأساليب هي تلك نفسها التي استخدمت بعد الحرب العالمية الثانية، تضاف إليها الترسانة التي أنتجتها العولمة من نزعة استهلاكية، تغذّيها شركات مسيطرة عملت على تسليع الثقافة، ونزعة فردية وثورة معلومات واتصالات. 

ومع أننا ما زلنا "في خضمّ التجربة وداخل مختبر التاريخ، واستطعنا الصمود أمام العديد من الموجات إلا أن هناك مخاوف حقيقية من أن تظهر الآثار الخطيرة في مراحل لاحقة، وذلك بفعل ما أسماه عبد الحليم فضل الله في كتابه "العلم والعولمة قراءة في الأزمة من منظور اقتصادي ومعرفي": "الصدمات التكنولوجية الثقافية على القيم الراسخة المتصلة بالهويات والعقائد".

 

 

بثينة عليق ـ الميادين

 

 إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل