مقالات مختارة
شهدت دول أوروبية عديدة كوارث وأحداث عنف متنوعة خلال الأيام القليلة الماضية. على السطح تبدو هذه الأحداث بلا رابط يجمع بينها، لكنها تعد في العمق كاشفة عن تحوّلات عميقة تمر بها المجتمعات الأوروبية، وتؤكد من جديد عجز النظام الدولي أحادي القطبية عن تحقيق التناغم المطلوب لاستقرار السلم والأمن في العالم.
ففي 9 حزيران/يونيو الماضي، انطلق من ساحل مدينة طبرق قارب يحمل 750 مهاجراً، معظمهم من جنسيات شرق أوسطية وأفريقية، قاصداً إيطاليا. غير أن خللاً ما أصاب هذا القارب وأدى إلى انحراف مساره ودخل المياه الإقليمية اليونانية بالقرب من جزيرة كالاماتا، وهناك حدثت الكارثة، فقد انقلب القارب وغرق معظم من كان على متنه، وأعلنت السلطات اليونانية أنها نجحت في إنقاذ أكثر من 100 شخص وتمكنت من انتشال نحو 80 جثة، ما يعني أن قرابة 550 إنساناً أصبحوا في عداد الموتى أو المفقودين.
لم تكد تمر ساعات قليلة على هذا الإعلان حتى راحت وسائل الإعلام تنقل روايات تشكك في صحة الرواية الرسمية اليونانية التي توحي بأن ما جرى كان قضاء وقدراً. مؤكدة أن خفر السواحل اليونانية اعترضوا القارب المنكوب للتعرف على ماهية الذين كانوا على متنه والجهة التي يقصدونها، ثم قاموا بربطه بحبل وراحوا يجرونه بسرعة كبيرة، ما أدى إلى انقلابه وسقوط كل من كان على متنه، بل ونقلت على لسان شهود عيان أنهم تعمّدوا إغراق القارب، وتباطأوا في عمليات الإنقاذ، وقادوا الناجين إلى معسكرات وفرضوا عليهم الصمت.
وبصرف النظر عن دقة ما ورد في هذه التقارير، فلا شك أن هذا الحادث الأليم أعاد التذكير بموقف أوروبا المخزي من قضية المهاجرين من الضفة الأخرى للمتوسط، وبما ينطوي عليه هذا الموقف من أبعاد عنصرية ومن خرق للالتزامات الدولية، خاصة في ضوء ما لقيه المهاجرون الأوكرانيون الفارون من جحيم الحرب الأوكرانية من ترحيب واسع يتناقض كثيراً عما لقيه المهاجرون السوريون من صد ونفور.
بعد أقل من أسبوعين على وقوع هذه الكارثة، التي تعد جريمة كبرى ضد الإنسانية، إن ثبت أنها كانت متعمدة فعلاً، وتحديداً في 27 حزيران/يونيو، وقعت في بلد أوروبي آخر هو فرنسا هذه المرة جريمة حملت البصمات العنصرية البغيضة نفسها.
فقد كان نائل المرزوقي، وهو شاب من أصل جزائري لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، يقود سيارة في إحدى الضواحي القريبة من العاصمة باريس في صحبة صديقين. وحين لاحظ نائل أن دراجات نارية تابعة للشرطة تتبعه، توقف قبل أن يقترب منه أحد الضباط ويقوم بضربه بعقب بندقيته طالباً منه إطفاء السيارة، ثم لحق به ضابط آخر وهدده بدوره بإطلاق النار على رأسه إن لم يقم بإطفاء السيارة، وأعاد ضربه بعقب بندقيته، ما أدى إلى انزلاق قدمه من على مكابح السيارة التي بدأت تتحرك، فقام أحد الضابطين بإطلاق النار على رأسه مباشرة.
ولأن رفيقي نائل لاذا بالفرار، فقد كان بمقدور أحدهما أن يقوم بنشر مقطع فيديو يروي فيه تفاصيل ما شاهده. ورغم وجود بعض الاختلاف في تفاصيل الرواية التي بدأت تتداول بشدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن المنصات الإعلامية كافة، بما في ذلك المنصات المعبرة عن المواقف الرسمية، أجمعت على أن المخالفة المرورية التي ارتكبها الشاب الجزائري لم تكن تستدعي إطلاق النار بأي حال من الأحوال، ولو كانت سحنته فرنسية أو أوروبية لما جرى له ما جرى، ما يقطع بأن للحادث أبعاداً عنصرية شديدة الوضوح.
ولأن لفرنسا سجلاً متخماً بأحداث مشابهة، فلم يكن مستغرباً أن يؤدي الحادث الأخير، بفعل التراكم، إلى انفجار غضب عارم يمكن أن نطلق عليه "ثورة الضواحي الفرنسية". ولأن سكانها يعيشون حياة بائسة، بسبب ما يعانونه من بطالة وفقر وتهميش وتدني مستويات الثقافة والتعليم وتعمق الإحساس لديهم بالدونية والعجز عن الاندماج في المجتمع الفرنسي، يمكن القول إن النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي السائد في فرنسا أثبت فشلاً ذريعاً في قدرته على صهر أو دمج كل الشرائح المجتمعية، خاصة تلك التي تعود أصولها إلى المستعمرات الفرنسية القديمة، في النسيج الاجتماعي والثقافي الفرنسي.
في اليوم التالي، وتحديداً يوم 28 حزيران/يونيو، والذي تزامن مع أول أيام عيد الأضحى المبارك، أقدس الأعياد عند المسلمين، قام لاجئ من أصل عراقي، يدعى سلوان موميكا، بإحراق نسخة من المصحف الشريف أمام المسجد المركزي في ستوكهولم. يعرّف هذا الرجل نفسه في موقع "فيسبوك" بأنه "ليبرالي علماني ملحد"، و"مؤسس ورئيس حزب الاتحاد السرياني خلال الفترة من عام 2014-2018"، والعضو الحالي في حزب "ديمقراطيو السويد" اليميني المتطرف.
غير أن العمل الإجرامي الذي قام به، بحرق نسخة من المصحف الشريف، لم يكن مجرد مبادرة أقدم عليها شخص مختل العقل، وإنما كان عملاً مخططاً له تم التصريح به من جانب إحدى المحاكم السويدية التي أقرت بأن ما قام به هذا الرجل يدخل في عداد حرية التعبير عن الرأي التي يجب أن يحميها القانون!.
ولأنه سبق لشخصيات سياسية أوروبية عديدة، سويدية وغير سويدية، أن أقدمت على ارتكاب الجريمة نفسها مرات عديدة من قبل، فقد بات من الواضح لكل ذي عينين أننا إزاء ظاهرة سياسية اجتماعية تستدعي التوقف عندها بالتأمل. فقد سبق لسياسي دنماركي-سويدي يدعى راسموس بالودان، وهو زعيم حركة "سترام كورس" اليمينية المتشددة، أن قام بإحراق نسخة من المصحف الشريف في عدة مدن سويدية في شهر أيار/مايو الماضي، ما تسبب في إثارة اضطرابات سياسية عنيفة أدت إلى إصابة العشرات من المدنيين ورجال الشرطة. وقد حصل هذا الرجل، والذي قيل وقتها إنه يعتزم الترشح للانتخابات التشريعية السويدية، على رخصة من الشرطة تسمح له بالتظاهر في أكثر مناطق العاصمة السويدية اكتظاظاً بالمسلمين، رغم علمها المسبق من خلال حسابه في "فيسبوك" أن الغرض من التظاهرات التي سيقوم فيها بإحراق نسخة من القرآن الكريم هو "السخرية من الإسلام وإهانة النبي محمد".
بل لقد سبق لهذا السياسي نفسه أن قام عام 2019 بإحراق نسخة من المصحف ملفوفة بلحم خنزير مقدد، ما أحدث صداماً بين الجالية المسلمة والشرطة السويدية، كما أقدم 5 من أنصاره، في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2020، على حرق نسخة من المصحف الشريف في العاصمة البلجيكية بروكسل، وخطط للقيام بأعمال مماثلة في دول أوروبية أخرى، من بينها فرنسا.
نحن إذن لسنا أمام حادث فردي معزول قام به رجل مختل عقلياً، وإنما أمام ظاهرة سياسية اجتماعية تستهدف السخرية من "الآخر المختلف" والتهوين من شأنه وتحقير كل ما يمت إلى ثقافته وحضارته ومقدساته الدينية بصلة، وهي ظاهرة تتبناها وتنهض بأعبائها أحزاب وتيارات سياسية واجتماعية متطرفة تتعاظم قوتها باطراد في معظم الدول الأوروبية، ما يشكل تهديداً مباشراً ليس للسلم والأمن في حوض البحر المتوسط فحسب وإنما في العالم بأسره.
هذه المشاهد الأوروبية الثلاثة تفضي بنا إلى استخلاص مجموعة من النتائج، يمكن عرضها على النحو التالي:
النتيجة الأولى: تتمحور حول بقايا التركة الاستعمارية. فأوروبا التي سبق لبعض دولها أن تمكنت من استعمار بقية دول العالم، اعتباراً من الكشوف الجغرافية التي انطلقت في بداية القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن العشرين، تعاملت مع شعوب الدول المستعمرة، خاصة تلك التي لم تتبنى المسيحية ديناً، بأنها شعوب بدائية تقع على أوروبا مسؤولية نقلها إلى عالم الحداثة والتحضر. ورغم أن بعض شعوب المستعمرات القديمة حققت من الإنجازات في ميادين عديدة ما يجعلها نداً لأرقى الشعوب الأوروبية، فإن نظرة أوروبا الاستعلائية تجاهها ما تزال متغلغلة في النفوس، وتلك مسألة ما تزال تحتاج إلى معالجة جذرية.
النتيجة الثانية: تتمحور حول المنظومة الحالية لحقوق الإنسان. فرغم ادعاء أوروبا بأنها هي مهد جميع الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية، والمستندة إلى عدم جواز التمييز بين إنسان وآخر بسبب العرق أو الدين أو القومية أو عقائده الأيديولوجية، فإنها عجزت في الواقع عن كفالة معظم هذه الحقوق لشرائح عديدة من مواطنيها، خاصة تلك التي تنحدر من أصول دينية وإثنية مختلفة، بل وتوظف المنظومة الحالية لحقوق الإنسان كأداة سياسية وأيديولوجية في معركة الصراع على مناطق النفوذ في العالم. وتلك مسألة ثانية تحتاج إلى معالجة جذرية.
النتيجة الثالثة: تتمحور حول طبيعة النظام العالمي الجديد المطلوب ترسيخ معالمه. فمن الواضح أن النظم السياسية السائدة حالياً في أوروبا تعد جزءاً لا يتجزأ من النظام العالمي أحادي القطبية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية، لكن قطاعات عديدة من شعوب الدول التي تسيطر أنظمتها الحاكمة على هذا النظام، خاصة تلك التي تنتمي إلى دوائر ثقافية وحضارية مختلفة، لها مصلحة واضحة وتناضل من أجل إقامة نظام عالمي متعدد القطبية يكفل تحقيق الأمن الإنساني لكل البشر أينما كانوا. وتلك قضية ثالثة تحتاج إلى معالجة جذرية.
لقد انتهى عصر الاستعمار وحصلت كل شعوب العالم تقريباً على استقلالها السياسي، لكنها لم تتمكن بعد من إقامة نظام عالمي عادل. ونقصد بالنظام العالمي العادل، والذي بات مطلوباً بإلحاح، لا يقوم على تعددية قطبية تكفل احترام موازين القوى السائدة في العالم حالياً فحسب، وإنما تعددية تحترم ثقافة الآخر المختلف وحضارته وتتعامل مع شعوب العالم كافة باعتبارها شعوباً متساوية فعلاً في الحقوق والواجبات.
حسن نافعة ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً