أقلام الثبات
بعد انتهاء زيارته الأخيرة الى لبنان، حمل الموفد الخاص للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الدبلوماسي جان إيف لو دريان في حقيبة العودة، انطباعاً نهائياً، بأن هذا البلد انقساماته لا نهاية لها وبالتالي لا حلول لأية أزمة سياسية ما دام يعاني من أزمة نظام، وهي ليست مرتبطة حصراً بمسألة انتخاب رئيس للجمهورية.
وقبل تحميل الغير مسؤولية الإعاقة التي يعاني منها لبنان، وقبل تقييم جهود ومساعي هذا "الغير" سواء كان وسيطاً إقليمياً أو دولياً، فإن هذه الإعاقة عند كل استحقاق دستوري أو وطني متمادية منذ مؤتمر جنيف عام 1983، وبعده لوزان عام 1984، وصولاً الى الطائف عام 1989، ثم سان كلو عام 2007، والدوحة عام 2008، وانتهاء بالمؤتمر الخماسي حول لبنان في باريس عام 2023، ولا حاجة لتعداد ظروف انعقاد كل هذه المؤتمرات طالما جميعها جاءت لترميم الدولة اللبنانية بنفس نوعية السياسيين، كل السياسيين دون استثناء، ويبدو أننا ننزلق أو نتدحرج نحو مؤتمر تأسيسي، مصيبته الكبرى أنه بلا أساسات، لأن الدعوة إليه بحد ذاتها تستوجب مؤتمراً !
ولأن مقولة "هذا سيكون آخر رئيس مسيحي للبنان" قد بدأ ترويجها خلال عهد الرئيس إميل لحود 1998- 2007، فإن المجيء بالرئيس ميشال سليمان قد جاء فلتة شوط في مؤتمر الدوحة عام 2008، وبعد سنتين ونصف من نهاية عهده جاء الرئيس ميشال عون محسوباً على "مار مخايل"، ولم ينفعه لا مار مخايل ولا جميع القديسين في تفكيك سلسلة مُتراصة من الفاسدين على كل المستويات ومن مختلف الطوائف، هذه الطوائف التي لا "طائف" ولا "دوحة" سمحتا ببناء دولة لها، تستطيع الوقوف على قدميها بلا مؤتمرات.
المؤتمر التأسيسي الذي يُروِّج البعض لضرورة عقده في حال استمر الشغور الرئاسي، يلزمه مؤتمر تحضيري برعاية إقليمية- دولية لتحديد مَن سوف يحضره من الشخصيات الدينية والحزبية والسياسية، وليست المشكلة في حجم التمثيل لثماني عشرة طائفة، ولا في الإحصاء السكاني الذي حصل آخر مرة عام 1932، وتمّ توقيف العدّ منذ ذلك التاريخ حفاظاً على الصيغة والميثاق الطوائفي، بل أن كل الوضع الديمغرافي والسياسي في لبنان قد تغيَّر مع تغيُّر الظروف التي يتجاهلها الكثيرون.
أولاً: الثنائي الشيعي هو الوحيد في لبنان الذي "يحتكر" التمثيل السياسي للشيعة في الوقت الحاضر، ولذلك هو حاضر بقوة وثقة لأي مؤتمر تأسيسي فيما الأطراف الأخرى غير جاهزة.
ثانياً: السُنَّة ليست لديهم قيادات تستطيع تمثيلهم بمختلف توجهاتهم المناطقية والسياسية، مع غياب الحياة الحزبية عن شوارعهم الشعبية.
ولعل ظاهرة الرئيس المرحوم رفيق الحريري، ومن بعده نجله سعد، قد اختطفت الوهج السياسي وغيَّبت العائلات السياسية التقليدية لصالح الرأسمال القادر جزئياً على تكوين الشارع الشعبي في ظروف معيشية قاسية ، ولكن بعد اعتزال الرئيس سعد الحريري، لم يتمكن أي شخص سني إدعاء الزعامة، فانقسمت الطائفة الى مناطق: عكار والإقليم وعرسال تنتظر عودة "الحريرية"، طرابلس لها قيادات متعارضة التوجهات ومتنافرة مع الجار العلوي في جبل محسن، والتي ستنتقل بتناقضاتها الى طاولة أي مؤتمر تأسيسي، فيما بيروت حالياً تفتقد شخصية سياسية مدنية وتستعيض عنها بمقام دار الفتوى، وصيدا والبقاعين الأوسط والغربي، يقوم نواب كل منطقة بمهام تصريف أعمال "الزعيم الغائب".
ثالثاً: ننتقل الى الطائفة الدرزية، التي سيبقى وليد جنبلاط "شيخ العقل السياسي" لها مدى الحياة ولكن، كما انقسمت مشيخة العقل الدينية لدى الطائفة، تشرذمت مشيخة العقل السياسية قبيل وراثة تيمور لوالده، وبات هناك إضافة الى طلال إرسلان ووئام وهاب وانصار الحزب القومي، فورة شبابية درزية تطالب تيمور بعصرنة الحزب، وعدم الإعتماد على إرث الوالد في زئبقية المواقف خصوصاً أن مياه "عين التينة" لم تعُد تروي الظمأ.
رابعاً: ندخل في الوضع المسيحي على أية طاولة مؤتمر تأسيسي، ولن يستطيع الموارنة كالعادة التوافق على ممثليهم، ولن يكون لهم صدر الدار كما في القرن الماضي، ولن يتواجهوا طبعاً مع الأقليات من الكلدان والأشوريين والإنجيليين وسواهم، بل مع الروم، الكاثوليك منهم والأرثوذكس، نتيجة شعور الطائفتين بالظلم في الحضور السياسي، وغُبن في وظائف الفئة الأولى لصالح الموارنة.
إذاً، ليس المؤتمر التأسيسي المزعوم مقاسمة سهلة، لا في حصص التمثيل الطائفي والحزبي والسياسي على الطاولة، ولا في المواضيع التي سيغلب عليها الطابع المذهبي، لأن الأطراف سوف تتقاتل على لعبة الأحجام قبل الوصول الى المؤتمر، وحبذا لو يتمّ خلال المدى غير البعيد، انتخاب رئيس جمهورية لتصريف الأعمال وتقطيع الوقت، كي نتحاشى المزيد من تقطيع أوصال هذا الوطن في مؤتمر تأسيسي بلا أسس ولا أساسات.