السودان من التقسيم إلى التفتيت ـ عدنان الساحلي

الجمعة 21 نيسان , 2023 03:27 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

​ليست ثنائية الجنرالين: الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي" قائد "قوات الدعم السريع"؛ ورئيس مجلس السيادة الانتقالي، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أول سلطة ثنائية توقع السودان وشعبه بالكوارث. إذ يبدو أن هذا البلد العربي- الأفريقي كتب عليه أن يدفع غالياً ثمن الثنائيات التي حكمته. وفيما لم تنفع ثنائيات الماضي في رد التوسع العثماني والأنكليزي عن السودان، لم تحم ثنائيات الحاضر السودان من الأخطار القاتلة التي تهدده؛ وأبرزها إنتقاله من واقع التقسيم الذي عاناه بانفصال الجنوب عن الشمال، إلى متاهة التفتيت، الذي قد يصبح واقعاً بعد أن يخسر السودان قواته النظامية، التي تتصادم هذه الأيام بالنار، مع الميليشيا التي سبق لتلك القوات أن أنشاتها وسلحتها، لتعتمد عليها في مواجهة القوى الإنفصالية، التي تتحرك في أكثر من ولاية سودانية، ليست دار فور سوى نموذج عنها.

فمنذ أتفاق السلطنة العثمانية مع الأنكليز، على توجيه حملة عسكرية مصرية- إنكليزية، أطاحت بالثورة المهدية، عام 1896، في ما عرف بالحكم الثنائي، المصري- الإنكليزي، بعد إنشقاق محمد علي باشا عن السلطنة، مروراً بثنائية طائفتي الختمية والأنصار، المستندة إلى تنوع جهوي وسياسي أكثر منه ديني، فالختمية باعتبارها طريقة صوفية، هي "طائفة" الحزب الإتحادي الديموقراطي، الذي تزعمه آل الميرغني منذ نشأته. فيما "الأنصار" هم "طائفة" حزب الأمة السوداني، الذي تزعمه أحفاد زعيم الحركة المهدية؛ وصولاً إلى ثنائية "الأخوان المسلمين" التي نمت برعاية الشيخ حسن الترابي وحكمت عبر العسكر والجنرالات، بزعامة اللواء عمر حسن البشير، بعد ان إنقلبوا على مرشدهم الترابي، في ما عرف بالخلاف بين التنظيم الوطني للإخوان، بقيادة جنرالات من الجيش؛ وبين تنظيمهم الدولي ممثلا بالشيخ الترابي. إلى أن جاء تحالف البرهان و"حميدتي" ليطيح بحكم البشير عام 2019، بعد أن طال وجوده في السلطة لثلاثة عقود.

وإذا كان البرهان من كبار قادة الجيش السوداني، فإن "حميدتي" هو أيضاً من جنرالات هذا الجيش. ويقدرعديد ميلشيات "قوات الدعم السريع" بنحو 100 ألف مقاتل، يتواجدون في قواعد وينتشرون في أنحاء السودان. وهي تحديث لما كان يسمى "ميليشيا الجنجويد" القبلية، التي شاركت منذ عقدين في الصراع بدارفور. واستخدمها نظام عمر البشير الحاكم آنذاك، لمساعدة الجيش في إخماد تمرد الإنفصاليين هناك. وفيما نمت تلك الميليشيا بمرور الوقت؛ واستُخدمها البشير كحرس حدود حيناً، لمواجهة الهجرة غير النظامية، ثم للمشاركة عام 2015 في الحرب على اليمن، للقتال في صفوف القوات السعودية والإماراتية، نمت في موازاتها، أعمال دقلو التجارية بمساعدة من البشير. ويقال أن أسرته وسعت ممتلكاتها في تعدين الذهب وتجارة الماشية وتعهدات البنية التحتية.

كما توسعت علاقاته العربية والخليجية خصوصاً، قبل أن يتحالف مع البرهان ويطيحا بالبشير نفسه. الذي اقر قانوناً عام 2017، منح فيه "قوات الدعم السريع" صفة قوة أمن مستقلة. مما أثار حساسية قيادة الجيش، التي أبدت قلقها إزاء نمو قوات حميدتي ورفضها الإندماج في صفوف الجيش. ومثل هذا الصراع ليس جديدا على السودان، الذي إنشغل لقرون خلت بصراعات الختمية والأنصار. فزعامة الختمية إختارت الولاء لمصر. وأصبحت راعية فيما بعد للحركة السياسية التي كانت تدعو إلى الوحدة بين مصر والسودان. أما الأنصار، الذين تتركز شعبيتهم في غرب السودان، فقد تحول حزبهم "الأمة" وهو حزب إسلامي يعارض العلاقة مع مصر، إلى أحزاب عدة، نتيجة الخلافات التي نشبت بين الصادق المهدي وابناء عمومته، منذ أن تسلم زعامة الحركة المهدية وحزبها و"طائفتها". لم يشفع للسودان إصطفافه في طابور الأنظمة العربية المطبعة مع العدو "الإسرائيلي"، بضغط أميركي علني وتمويل خليجي مباشر، بعد أن أثقله حكامه الفاسدون بالديون، على الرغم من غناه بالثروات الطبيعية، فهو الأكبر مساحة بين الدول العربية والأفريقية، قبل إنفصال الجنوب عنه. وهو سلة غذاء العرب، لو أحسنت الحكومات العربية التعامل معه وتنميته، لما يمتاز به من ثروة حيوانية وزراعية ومائية، حتى أنه يملك مناجم للذهب.

وها هو يواجه استفحال الأخطار التي تهدده، فتنقله من واقع التقسيم الذي عاناه، إلى متاهة التفتيت الذي يكشر عن أنيابه من مختلف جهاته، بعد إنفجار الصراع بين الجيش السوداني وميليشياته، التي أنشأت في الأصل لمواجهة القوى الإنفصالية في اكثر من ولاية سودانية، خصوصاً في غربه في دارفور. ولطالما عانى السودان من دعاة الإنفصال، إبتداء من الجنوب، الذي اصبح دولة مستقلة، بعد أن تدخل العامل "الإسرائيلي" في دعم الإنفصاليين بزعامة جون قرنق؛ وبسوء إدارة قادة الشمال لهذا الملف، فلطالما اعتبر هؤلاء أن الجنوب أعجز من أن يقدم على الإنفصال، لأنه سيواجه حرباً قبلية مدمرة بين القبيلة المهيمنة "الدينكا" والقبيلة المعارضة "النوير". لكن الرعاية الأميركية و"الإسرائيلية" للإنفصال جعلت منه أمرا واقعاً.

أما في الغرب فهناك من يقول لك "أنا عربي اللسان زنجي الكيان"، في منطقة تشهد سنوياً صراعات قبلية دموية واسعة، بين القبائل العربية وتلك الأفريقية. ولا تخلوا بقية ولايات السودان من دعوات إنفصالية غير عرقية وغير دينية، فـ"حركة تحرير شرق السودان" تتحرك في منطقة يغلب عليها الطابع القبلي العربي والإسلامي. والحركة الشعبية لتحرير السودان، القريبة من الحزب الشيوعي السوداني، ليست تعبيراً عن شعور أقلوي، بل هي نتاج صراع إجتماعي وطبقي. وجماعات "البجا" و"النوبة" مسلمون. والمسلمون في السودان غير مقسمين طائفياً. لكن فساد الحكام جعل السودان بلداً فقيراً، يهاجر ابناؤه للعمل في مختلف بلدان العالم. وآخر الفساد الذي يفتك بالسودان، هو ذلك الإتفاق الذي وقعه "حميدتي" لتقاسم السلطة مع البرهان، ليكون نائباً له في رئاسة مجلس السيادة الإنتقالي، الذي يحكم السودان، بعد أن إنقلب الرجلان على البشير وأطاحا به، ثم إنقلبا على أنفسهما وها هما يفرطان بالقوة التي تحمي وحدة السودان، ليصبح فريسة لمشاريع التفتيت المحضرة لكل بلد عربي عندما يحين دوره.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل