أقلام الثبات
بشيء من الغضب والألم ، تحدثت تلك السيدة التي تحمل قدرا عاليا من الثقافة والوعي لمحدثها عن المغتربين اللبنانيين الذين توزعوا في رياح الأرض الأربع، بعد أن ضاقت بهم سبل العيش الكريم في بلدهم، فراحوا يكدون ويجدون ويجتهدون، فاخضوضر بجدهم المكان الذين كانوا يحلون به ، واينع كدهم في وطنهم الأم عطاءات وبناء وتقدما. لم يرتح ذاك اللبناني المنزرع تحت شمس دنيا الله الواسعة ، كدا وجدا وتعبا وعملا متواصلا ، وبه يصح قول مخائيل نعيمة الذي ولد في لبنان في مكون من غرفة واحدة لا يتجاوز طولها وعرضها سبعة أمتار وعلوها ثلاثة أمتار : " لو تم ارتياد القمر لكان في طليعة الواصلين اليه لبنانيان : الأول يحمل (كشة) على ظهره والثاني يحمل قلما ودواة ".
هؤلاء المنزرعون في عصب الدنيا، لم يجدوا الفرصة في وطنهم، فجابوا البحار والمحيطات والأجواء نحو عوالم جديدة ، أو قديمة، لا فرق فعملوا وعملوا وسهروا وتعبوا وبنوا أعمالهم وتجاراتهم ومؤسساتهم وصاروا ملء الدنيا نجاحا وحضورا، كما اسهموا في تقدم البلدان التي حلوا بها. وتتحدث تلك السيدة عن أفواج الاغتراب اللبناني، فتؤكدا انه إذا كان ابطال اغتراب العقود الأخيرة محظوظون، لأنهم انتشروا وهم يحملون شهادات علمية او خبرات مهنية، فان كثيرين في أفواج المغتربين الأوائل وفي عقود مضت، لم يكون حصلوا الا على نذر من التعليم، وبعضهم كانوا أقرب الى الأمية، لكنهم تميزوا بطموح لا حدود له، فتعلموا واكتسبوا لغات ومهارات مهنية وبنوا عالم أعمالهم بنجاح منقطع النظير. واذا كان الاغتراب اللبناني لم ينج من اعتداءات في بلدان انتشارهم، الا انهم أيضا لم يسلموا من " تشبيح " لبنانيين إن جاز التعبير، الذين وجدوا في لبنانيي الانتشار" بقرة حلوب"، فاندفعوا نحوهم بأسماء جمعيات ومؤسسات مختلف دينية، خيرية، اجتماعية، وإنسانية وحتى سياسية وهلم جرا من أسماء وتسميات، ولم يبخل المغتربون عليهم مرة. رغم علم الكثير من المغتربين ان كثيرين من هؤلاء يتغطون بأسماء للارتزاق ولا علاقة لعملهم بالخير.
النصب الكبيرة الذي تعرض له المغتربون في السنوات الأخيرة فاق كل التوقعات والتصور، حين سطت المصارف اللبنانية على مدخرات العمر وودائعهم بتغطية من السلطات الرسمية ومصرف المصارف الذي اسمه "مصرف لبنان "، التي لم تلجأ الى تدبير واحد يحمي حق الناس ، في عملية سرقة لم يشهد العالم مثيل لها منذ 250 عاما . لقد عرف لبنان سابقا إفلاسات مصرفية، ولا سيّما بنك إنترا، والمشرق ومبكو وغيرهم في الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وعانى من انهيار سعر صرف الليرة وموجات التضخّم المنفلت بين عامي 1982و1992، وعانى أيضاً من تراكم العجوزات المالية والمديونية الباهظة... اليوم، يواجه هذا المجتمع أزمة أخرى تُضاف إلى أزماته، ويشعر الناس بالقلق ويعبّرون عن التشاؤم وفقدان الثقة بإمكانية تجاوزها كما تجاوزوا الأزمات السابقة، ما يطرح سؤالاً عريضاً وعاماً: هل الأزمة الراهنة هي الأكبر والأصعب؟ هل هي الأسوأ؟ وهل هناك مخرج منها؟ هي مرحلة العجز الصريح والمطلق للمنظومة الحاكمة عن إيجاد حلول ناجعة لأزمة بنيوية تعصف بالاقتصاد ككل، وخصوصا في القطاعين المصرفي والمالي. فالمصارف في حالة إفلاس غير معلن، وهي تتحمّل مع مصرف لبنان المسؤولية المباشرة عن تبديد ودائع اللبنانيين ومدخراتهم.