أقلام الثبات
أعرق المدن.. باريس والقاهرة، وأضخم المدن.. نيويورك وطوكيو.. وأجمل المدن: البندقية، روما، سان فرنسيسكو، صنعاء، الدار البيضاء، تونس، موسكو، داكار، ميونيخ، دمشق، فلكل مدينة ألقها وسحرها ومذاقها. لكن تبقى مدينة المدن، وزهرتها، وأعرقها وأغناها إنسانياً، وتاريخياً، وقداسة : القدس.
فالقدس ليست تاريخاً فقط ، وليست القدس مكانة أو جدارة أو عراقة فقط. إن احجارها ليست حجارةً، وصخورها ليست جبالاً، صخورها وحجرها وكنائسها ومساجدها وأشجارها وبيوتها .. حجارة وصخور وشجر وجبال وشيء آخر .. شيء امتزج بأعمق ما في الإنسان: العقيدة.
امتزج كل شيء في القدس بأكبر نقلة حضارية وروحية في تاريخ الإنسان وأصبح كل شيء فيها روحاً وعقيدة على مدى آلاف السنين. القدس بلا مبالغة هي عاصمة العواصم لأنها عاصمة الديانات والعقائد. هي عاصمة العواصم وزهرة المدائن. القدس في تاريخها وفي سلامها، وفي حربها، وهي راية العقائد وهي أيضاً تحت الاحتلال، تبقى رمزاً للجهاد والحرية. كانت رحلة إبراهيم الخليل من أرض "أور" في الجنوب الغربي للعراق على رأس قبيلته هي البداية الأولى لتاريخ القدس كمدينة دينية هامة.
دخل إبراهيم أرض كنعان أي فلسطين القديمة حيث شيدت القدس. وتقول التوراة: أن داود نظر يوما من على سطح بيته فرأى امرأة عارية تستحم في ساقية منزلها، وكانت المرأة هي "بات شيبا" زوجة القائد "أوريا الحثي". وتقول التوراة أن داود رغب في امتلاك المرأة رغم أنها متزوجة ورغم أنه "يملك" تسعاً وتسعين زوجة، وتحايل داود للتخلص من القائد الزوج فأكره بقيادة الحرب. ولما كبر داود وطعن في السن قرر أن يتوج ولده سليمان ملكاً في حياته على اليهود في القدس، وفي 960 ق.م بدأ سليمان بناء المعبد أو الهيكل فوق جبل موريا، وتقول التوراة "أنه طوال سبع سنوات عمل مائة وسبعون ألفاً من الرجال في بناء الهيكل ولم يسمع طوال هذه السنوات صوت مطرقة ولا فأساً ولا أية أداة حديدية في أثناء البناء. وتأثر هيكل سليمان طبقاً للصور التي رسمت له في القرون الوسطى بمؤثرات فارسية وبابلية ومصرية وميدية. وفي عام 594 ق.م انتصر الملك البابلي "نبوخذ نصر" على فرعون مصر المغولي "نخاو" في معركة قرقميش الثالثة، وكان المصريون يدافعون في هذه المعركة عن فلسطين كلها وسورية ومن ورائها مصر، وفتح ذلك النصر أبواب القدس التي كان يحكمها ملك يهودي هو "صدقيا" كنائب لفرعون مصر وحاصر "نبوخذ نصر" القدس لمدة ثمانية عشر شهرا، وبعد سنة ونصف من الحصار نجح البابليون في فتح ثغرة في أسوار المدينة واستولوا عليها.
وسقطت القدس وقاد البابليون المنتصرون أهل القدس من اليهود والكنعانيين (والمصريين الذي كانوا يدافعون عن القدس، على الرغم من إنكار المصادر اليهودية هذه الواقعة) وسيق الأسرى إلى بابل. وعمد اليهود إلى الاستنجاد بقوة قورش ملك الفرس الذي نجح في تحطيم سيطرة بابل، وعاونهم اليهود من داخل بابل في تخريب عمليات الدفاع، وكافأهم قورش بان سمح لهم بالعودة -دون بقية الأسرى من المصريين والكنعانيين- فعادوا إلى القدس وسمح لهم ببناء الهيكل، وكان البابليون قد أحرقوه منذ مائة عام. وكأن التاريخ يعيد نفسه فكما استعان الصهاينة بأوروبا على مصر في عام 1956، استعانوا بالفرس على أهل بابل، وكان دورهم التخريبي لمصلحتهم الخاصة، وحين عادوا إلى القدس عمد كهنتهم وعلى رأسهم توبيا ونحميا وعزرا إلى إعادة كتابة التوراة وكان عزرا أشهرهم وأقواهم وعمد إلى تخليص اليهود من المؤثرات البابلية والمصرية والميدية في أثناء خضوع القدس، واستمرت سيطرة الفرس ما يزيد على ثلاثة قرون وجاء الاسكندر على رأس جيشه الأغريقي واستولى على المنطقة كلها، وبعد وفاته كانت سوريا وفلسطين من نصيب قائده "سيلوكوس" الذي حكم العراق وإيران أيضاً.
في عام 301 ق.م هزم البطالسة المصريون سليوكوس في معركة "ايسوس" وأصبحت القدس تابعة للبطالسة طيلة قرن كامل. وجاء الملك اليوناني انتونيخوس الأول، ابن سليوكوس الرابع، فأغار على القدس، وأمر بهدم المعبد الذي كان قد تحول إلى مركز للتجارة والأعمال المصرفية في العالم اليوناني وهجر اليهود دينهم وتقاليدهم، وتقول التوراة "لقد عاقبهم الرب على جشعهم وكفرانهم بيد انتونيخوس" وتجمع المكابيون - وهي أسرة من الكهنة - واصطدموا بجيش صغير لانتيوخوس وهزموا جيشه. وبالغ اليهود في تصوير انتصارهم وأقاموا دولة المكابيين التي عاد انتونيخوس السابع ليحطمها بعد عدة أعوام فقد حاصر القدس واستولى عليها مرة ثانية في عام 130 ق.م بعد حصار عنيف. مولد السيد المسيح "فأتت بها قومها تحمله، قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا" صدق الله العظيم. أن نفس المعنى جاءت به الأناجيل جميعاً. "قد جعل الرب بيته للعبادة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص" لوقا - 23. هكذا صاح السيد المسيح في تجار اليهود والصيارفة وهو يطردهم من المعبد بعد دخوله القدس تحقيقاً لنبوءة زكريا.
وفي طريق المسيح إلى القدس التقى بعدد من المرضى كان منهم الأبرص والأعمى وراح المسيح يبدي معجزاته فشفاهم الله. ووجد المسيح شقيقتين تبكيان أخاهما بعد دفنه وتوجه المسيح إلى قبر "العازر" فصاح به: يا "العازر" قم فقام الميت مسربلا في كفنه. بعد أن أعاد المسيح "العازر" إلى الحياة كان عليه أن يدخل القدس لأول مرة ليدعو أهلها إلى الإيمان وبعد أن يتناول غداءه في بيت "العازر" وعلى مائدته، ركب حماراً وذلك تحقيقا لنبوءة زكريا، وتوجه إلى القدس فقطع الشعب سعف النخيل ليستقبلوه به وفرشوا له الأرض بثيابهم وكان يصيحون: "بورك من جاء باسم الرب" "وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها، قائلاً إنك لو علمت أنت أيضا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك..
ولكن الآن قد أخفي عن عينيك، فإنه ستأتي أيام ويحبط بك أعداؤك، ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة ويهدمونك وبنوك فيك، ولا يتركون فيك حجرا على حجر لأنك لم تعر في زمان انتفاضك" لوقا - 19. الرومان يعودون وفي أول إبريل سنة 70 ميلادية ثارت القدس ضد الاحتلال الروماني كان اليهود قد هجروها منذ قرن كامل، واصبح أكثر أهلها من البدو والعرب والفلسطينيين الأوائل، وكلف الامبراطور "نسبازيان" قائده "تيتوس" باسترجاع فلسطين وقاد "تيتوس" فيالقه التي تزيد على مائة ألف مقاتل، وحاصر القدس ثلاثة أشهر وأخيراً استطاع أن يفتح القدس عنوة بعد اقتحام المبعد وحصن انطونيا... واقتحم تيتوس بقية المدينة في 17 إبريل/ نيسان 70 م ، وفي السادس من أغسطس/ آب أحرق الكهنة ما بقي من مبعدهم لكيلا تقع ذخائره في أيدي الرومان. العرب المسلمون وجاء العرب محررين للقدس لكي يعيدوا حقوق أهلها بعد احتلال اليهود واليونانيين، والمكايين، والرومان، وغيرهم... وفي ظل الحكم الإسلامي، كان اليهود يتمتعون بكامل حريتهم الدينية في المدينة المقدسة، وهناك لوحة سجلها بالرصاص رسام فرنسي من القرن 19 (1836) لليهود في أثناء قداس ديني في معبدهم بالقدس، واللوحة محفوظة الآن في متحف اسطنبول تثبت الحرية التي تمتعت بها القدس دائماً تحت الراية العربية والإسلامية.
ويقول كتاب "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" لإبي اليمن القاضي مجير الدين الحنبلي المتوفى سنة 900 هجرية "إن أول من بنى بيت المسجد النبي يعقوب عليه السلام كان يسكن القدس، وكان متوجها إلى خاله فإدركه الليل، وتوسد حجراً فرأى سلما منصوباً إلى باب من أبواب السماء عند رأسه والملائكة تتنزل إلأيه وتعرج منه. ويحوي الكتاب كذلك عدداً من الصور التقديسية التي تكشف عما يحيط القدس من أكبار - عند المسلمين- إذ يقول إن مركب نوح كانت بالبيت الحرام وبيت المقدس أسبوعا قبل أن تستوي على الجمود في الموصل. "ويقال أن السفينة لما بلغت بيت المقدس الذي يسكنه الأنبياء من أبنائك"، ويقول: " على صخرة بيت المقدس كان إبراهيم عليه السلام سيذبح ابنه، وتعبد زكريا ودعا ربه فاستجاب لدعائه في بيت المقدس، وتعبدت مريم وولدت المسيح في بيت لحم في القدس أو حولها ، وصلب السيد المسيح على الصخرة أو بالقرب منها، ويقال إنه رفع على جبل شرقي بيت المقدس، واسراء النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن مجرد عبور بالمكان وإنما نزل فيه آثار موضع قدم ونعل الجواد البراق. "وفي بيت المقدس احترق ولدا هارون عليه السلام فقد غفلا عن الصلاة وارادا اسراج قناديل المسجد بنور من الدنيا فاحترقا به". وفي القدس قبور سبعين نبيا من أنبياء الله، والدفن في بيت المقدس "يعد أمنية عند المسلمين والنصارى واليهود" وكل ذرة من تراب المكان تحمل قصة تروي خبراً. "وكل ذرة - كما يقول سلاطين آل عثمان قد رويت بدم المسلمين دفاعاً عن بيت المقدس والمدينة المقدسة".
وفي الحديث الشريف قال عليه السلام: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى" وقد كان المسجد الأقصى أول قبلة يتوجه المسلمون إليها بإمامة النبي الكريم. وحين فتح المسلمون القدس في السنة السابعة عشرة للهجرة (638م) بدأت صفحة جديدة لم يرَ العالم مثلها في تاريخ المدينة. (فقد أزال خليفة المسلمين عمر بن الخطاب بيده ما تراكم على الصخرة من قاذورات "وجد على الصخرة مما طرحته الروم غيظا لبني إسرائيل، فبسط رداءه وجعل يكنس ذلك الزبل، وجعل المسلمون يكنسون معه الزبل، ومضى نحو محراب داود فصلى فيه ثم قرأ سور ص وسجد". وقد دام حكم المسلمين ثلاثة عشر قرناً، خلا قرن واحد تمكن فيه الصليبيون من الاستيلاء على بعض أجزاء من فلسطين وعلى بيت المقدس، التي عاد المسلمون وحرروها.
وقد بنى المسلمون في عهد عبد الملك بن مروان مسجد الصخرة، وانفقوا عليه خراج مصر لسبع سنوات واتخذ المسلمون من ساحة الحرم الشريف والمسجدين الكبيرين والأروقة مدارس يدرسون فيها علوم الدين وقصد معظم الحجيج بيت المقدس، في ذهابهم إلى بيت الله الحرام وفي عودتهم منه وروى السيوطي في الجامع الصغير: " عن زهير بن محمد بلاغا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى بارك ما بين العريش والفرات وخص فلسطين بالتقديس". ويزعم الصهاينة الآن أن بيت المقدس لهم بمثابة الرأس للجسم وقد غير الاسرائيليون اسم بيت المقدس واصبحوا يستخدمون اورشليم رغم أن اورشليم التاريخية هدمها الرومان مرتين، وازالوا اسمها من الوجود، وهي التي تنبأ السيد المسيح بخراجها حين قال: "يا أورشليم يا اورشليم! يا قاتلة الانبياء وراجمة المرسلين إليها، هوذا بيتكم ينزله لكم خرابا".
وقد فتح المسلمون بيت المقدس دون قتال لم يأخذوها من اليهود. أخذوها من الرومان أعداء اليهود، ولم تهدم المدينة، ولم تحرق طوال حكم المسلمين اثني عشر قرنا. وبالعكس تماماً صادر الاسرائيليون في عام 1948 أملاك العرب مسلمين ومسيحيين واستولوا على نحو ألف مسجد، وهدموا عدداً كبيراً من المساجد والكنائس والأضرحة وصادروا مليون دونم موقوفة ثم انتهكوا حرمات بيت المقدس أواسط 1967، وشردوا ودمروا وسرقوا وأغلقوا عددا من بيوت الله واليوم، لم يتغير الوضع فلا يغير احتلال ولا احراق ولا اضطهاد عقائد المسلمين والمسيحيين في مكانة القدس، وجدارتها أن تكون عاصمة العواصم وعاصمة الديانات والمذاهب، والملتقى الشريف للتوحيد أكبر نقلة في تاريخ الإيمان والعقيدة على مر العصور. وليست القدس نقطة من نقاط البرامج التي يضعها الدبلوماسيون على مؤائد المفاوضات ... أو المساومات.
القدس هي القدس عاصمة العواصم، وأعز البقاع لقلوب المؤمنين. القدس كما هي مفتاح حياة المدن، وهي مفتاح السلام، وهي مفتاح الحرب. هي عاصمة العواصم، وأعز البقاع لقلوب المؤمنين. وقد كتب عليها أن تبقى رمزاً للمواجهة وحرية البشرية والإيمان العميق، وهي حتماً مدينة الحرب من أجل السلام، ومدينة الصفاء والصلاة ... ورمز حركة التاريخ، وهي "سيف القدس" من أجل الحرية والتحرر والإيمان والمستقبل.