مقالات مختارة
أربعون عاما ونيف مضت على “قيامة حزب الله”،ثلاثون منها بقيادة الأمين العام الحالي السيد حسن نصر الله، كللتها حروب وانتصارات وإخفاقات وأحداث جسام داخلية وخارجية ،لكن الحزب عبر كل المراحل الصعبة معزِّزا فائض القوة السياسية والعسكرية والجماهيرية، حتى غدا قوة لا يمكن تجاوزها أو الإستهانة بها ،وأنشأ معادلات لا يمكن تجاهلها أو العبور فوقها.
تعرّض الحزب منذ تأسيسه لضغوط محلية وإقليمية ودولية جارفة في كل المجالات السياسية والعسكرية والأمنية والإقتصادية ،ليس أقلها حرب تموز عام 2006، التي راهن الكثيرون فيها على هزيمة الحزب ونهاية المقاومة، فكان أن عبر الهزيمة وثبّت أقدامه أكثر فأكثر.
صرف الحزب في مسيرته الطويلة قوافل من الشهداء بينهم قادة كبار أسهموا في انتصاراته وتثبيت أقدامه ،لكن مقاومته بدت ولاّدة للقادة والكوادر الذين يحفل بهم جسمه المتين.
أنفق الخصوم في الخارج مبالغ طائلة في مناوئة الحزب ، وتجند الكثيرون في الداخل سياسيا وإعلاميا، وعسكريا وأمنيا في بعض الأحيان، لكسر شوكته وليّ ذراعه ،لكن من دون جدوى ولا طائل.ومع ذلك ما زال هؤلاء يصرون على خطهم ورهاناتهم التي انطوت على إخفاقات موصوفة.
كل ما تقدم بات يستدعي نوعا من المصارحة التي لا يمكن القفز فوقها، ونقاشا هدئا بعيدا عن اللغة السائدة، استنادا إلى ثوابت الحزب التي تؤكدها حقائق العقود الأربعة الماضية وتطوراتها،لعل الذكرى تنفع المؤمنين.
ومن هذه الحقائق والثوابت يمكن إدراج الآتي ،ما عدا السهو والسلوّ:
أولا: أن الحزب يعي جيدا تركيبة الساحة اللبنانية ،وأن هدفه ليس الاستيلاء على السلطة ،ولا يريد أكثر من شراكة كريمة مع المكونات اللبنانية،وهو يعرف جيدا أن السلطة في لبنان في ظل نظامه الحالي هي مقتل الحاكمين وأضعف الفرقاء،إنطلاقا من القاعدة الشريفة التي رآها الإمام علي بن أبي طالب قبل 1400 سنة وهي:”نصف الناس مع الحاكم إذا عدل”،فكيف إذا لم يعدل؟..لكن الحزب يرفض في الوقت نفسه أن يكون شريكا ضعيفا لا حول له ولا قوة كما يُراد له. ولو توفرت قوة الحزب في كل المجالات لغيره من القوى اللبنانية ، لما قصّر هذا الغيرفي التسلط والتفرد ،والشواهد لدى خصومه فيما مضى كثيرة.
ثانيا: أن فائض القوة العسكرية والأمنية لدى الحزب ليس مرصودا للساحة اللبنانية ولا لأهلها،ولم يستخدم الحزب هذا الفائض في الداخل إلا في ما ندر.وعليه فإن الحديث عن استحالة الشراكة في ظل هذا السلاح، لن يفضي إلى نتيجة أو تفاهم أو حتى تسوية،لأن الحزب لن يتخلى عن سلاحه في ظل الظروف السائدة في المنطقة ،وفي كنف التهديدات التي تبتغي أزالته من الوجود.
ثالثا:أن قوة الحزب لم تعد تعنيه وحده ،بل تعني شريحة كبيرة تعادل ثلث البلد باتت مرتبطة بمصيره، شاء من شاء وأبى من أبى ، وهي شريحة قلقة لأنها تشعر بأنها مستهدفة في بقائها كريمة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا،والشواهد كثيرة أيضا، فضلا عن الدور الاقتصادي والإجتماعي والتكافلي الذي يلعبه الحزب في حياة هذه الشريحة.وليس سرا أن هذه الشريحة هي الأكثر راحة اليوم بين الشرائح اللبنانية في ظل الإنهيار الاقتصادي القائم.ولا يعني ذلك أنها مرتاحة ،بل هي الأكثر راحة كما أسلفنا ،لوجود مغتربين ورجال أعمال لا يتجاهلون أهلهم في الداخل ،فضلا عن تقديمات الحزب وغيره.ولا يغُرنّ أحدا بعض الأصوات الشيعية التي تناهض الحزب في هذا المجال.
رابعا:أن الحزب ليس تابعا صغيرا في حركة محور الممانعة، ولا هو شريحة إيرانية كما يحلو للبعض أن يصنفه. فما يخص لبنان معني به الحزب أولا وآخرا.لقد ذهب الكثيرون إلى طهران ،غربيين وشرقيين،للبحث في شؤون لبنان ،فكان الجواب الإيراني صريحا وواضحا:”راجعو السيد نصر الله” . ولا ينكر الحزب علاقته المتينة بالجمهورية الإسلامية ولا تمويله ولا تسليحه ولا ارتباطه بولاية الفقيه،لكن شؤون الساحة اللبنانية الداخلية محصورة بقراره الذاتي.
خامسا: أن أكثر ما يحمل الحزب على السخرية ،حديث خصومه عن سيادته المنقوصة،وهو الذي دفع الأثمان الغالية بشريا وماديا في سبيل هذه السيادة ،سواء على جبهة العدو الإسرائيلي أم على مستوى جبهة الحركات الإرهابية ،إلا إذا كانت السيادة لا تكتمل إلا بالرضوخ للمحور الآخر.
سادسا:يستغرب الحزب الحديث والتهديد بالفدرلة والتقسيم ،واتهامه بدفع الآخرين إلى هذا المنحى،وهو الذي ذهب إلى آخر الدنيا لأنه يرى لبنان أضيق من أحلامه.
سابعا:يحترم الحزب حلفاءه ويعتبر أن الوفاء لهم في صلب عقيدته السياسية والدينية ،مثلما يحترم التفاهمات والتعهدات معهم ،ويرى أن ذلك يخفف عن كاهله الكثير من الخلافات الجانبية في ظل إهتماماته الكبيرة.وكان السيد نصر الله واضحا وصريحا مؤخرا في تفسير العلاقة مع التيار الوطني الحر على وجه الخصوص،في حين أن تحالفه مع حركة أمل منذ التسعينات لم تعكر صفوه كل محاولات الفتنة والتفريق.
ثامنا:أن الحزب مستعجل أكثر من غيره لانتخاب رئيس للجمهورية يكون مدخلا لانتظام المؤسسات ،ما يخفف عنه الكثير من الأعباء المفترض أن تقوم الدولة بتحملها،ولأن الإنهيار الحاصل يشكل عبئا إضافيا على كاهله.صحيح أنه يريد رئيسا غير معاد له وللمقاومة ،وهذا حقه ضمن الأطر الدستورية.
تاسعا:أن الحزب لن يسلم أو يستسلم في ظل الضغوط وحالة الحصار المفروضة عليه ،متكئا إلى بيئة تحملت الكثير الكثير وما تزال،وإلى تنظيم متين لم تزعزع تماسكه الملمات.
أمام كل ما تقدم،وأمام هذه المعطيات والحقائق والثوابت،ولأن كل وسائل الضغط قد استخدمت ،فقد صار واضحا أن التفاهم مع حزب الله بات أكثر حكمةً وأقل كلفة، بالنسبة له وللآخرين وللبلد بشكل عام ،وقد أثبت الحزب في مراحل سابقة إستعداده للتفاهم والتسويات ،لأنه كما أسلفنا يعي جيدا تركيبة البلد في ظل نظامه السياسي القائم. وواهم من يعتقد أن الحصار والضغوط والمواقف السلبية ستفضي إلى نتيجة .أما البديل فهو مزيد من الإنهيار إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا..ولعل المصالحة الإيرانية السعودية المستجدة تفتح الباب أمام المواقف المغلقة على الحوار نحو آفاق جديدة تبعث على الأمل بقيامة لبنان.
كتب واصف عواضة – الحوار نيوز