أقلام الثبات
الانتخابات الرئاسية التركية التي كانت محددة في الثامن عشر من حزيران، قرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل الكارثة الزلزالية تقديم موعدها الى الرابع عشر من أيار ، كي لا يتأثر الموسم السياحي الصيفي في البلاد، وجاء الزلزال وما تلاه من آلاف الهزات الارتدادية، ليقضي الى أجل غير مسمى على الحركة السياحية التركية ويغيِّر من أولويات الاقتصاد، وسط المخاوف من الزلازل المحتملة في إسطنبول ومرمرة وفق توقعات الخبير الهولندي ويجاريه بها بعض الخبراء الأتراك.
لكن، لا الزلازل والهزَّات السابقة ولا اللاحقة فرملت الرئيس أردوغان عن اندفاعته لإجراء الانتخابات في أيار المقبل ، كتوقيتٍ مناسب لقطاف الموسم، لأنه بنظر الأتراك المنكوبين حالياً، هو المنقذ الأوحد، وهو الرئيس الأقدر، والحاكم الأجدر لإعادة تركيا الى ما قبل السادس من شباط المشؤوم، عبر ورشة إعمار وإسكان لإيواء اكثر من خمسة عشر مليون تركي يبحثون عن مأوى مؤقت بين المخيمات والبيوت الجاهزة، بانتظار أن يبني لهم أردوغان ما دمرته الزلازل في جنوب تركيا خلال عامٍ واحدٍ كما وعدهم، وهذا الوعد ليس أكثر من برنامج انتخابي غير واقعي، بالنظر الى العوائق الجيولوجية والعلمية والفنية، اضافة الى الكلفة المالية الهائلة التي لا يحتملها الاقتصاد التركي، ووضع الليرة التركية التي كانت قبل الزلزال على الحضيض وباتت بعد الزلزال تحته.
بمقام "وزير تعمير وإسكان"، يُفترض أن يبقى أردوغان على كرسي رئاسة الجمهورية التركية، بعد أن أقصته الكارثة عن عرش "السلطان الإقليمي"، وبالكاد تكفي ولايته القادمة الى اعتماد ما يشبه "مشروع مارشال" لإعادة بناء البنى التحتية والسكنية، ومشروع كهذا يعتمد على المساعدات والاستثمارات الخارجية، ولا يُعتقد أن سياسات أردوغان مع الخارجَين الإقليمي والدولي مدى حياته السياسية لمدة عشرين عاماً، بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، تُشجِّع الأطراف على مدّ يد العون له لإعادة بناء سلطنة كانت ولا زالت في عقيدته منذ كان في حزب "الفضيلة " وانتقل بعده الى " حزب العدالة والتنمية".
قوة أردوغان السياسية قبل الكارثة الزلزالية وبعدها، تكمُن في ضعف خصومه من أحزاب المعارضة، الذين تتعارض توجهاتهم الفكرية والسياسية، ولا تجتمع سوى على خصومته، ومن ضمن المجموعات الحزبية التي تُعارضه هي الأحزاب الستة التي تٌطلق على نفسها تسمية "الطاولة السداسية" التي تأسست عام 2022 لمنازلته بمرشَّح توافقي في انتخابات 2023، وفعلاً أعلنت منذ يومين توافقها على زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو لمنازلة أردوغان في المعركة الرئاسية القادمة، وأدى هذا التوافق الى فرط عقد الطاولة السداسية وأصبحت خماسية بعد انسحاب زعيمة "حزب الجيد" ميرال أكشنار منها، اعتراضاً على تسمية أوغلو، وهي كانت واضحة في شرح أسباب رفضها له، وأنها تفضِّل ترشيح رئيس بلدية أنقرة أو رئيس بلدية اسطنبول، رغم أنهما ينتميان الى نفس حزب الشعب الجمهوري الذي يتزعمه أوغلو ، لكن أكشنار تراه ضعيفاً على المستوى الشعبي الانتخابي لأن مذهبه علوي، وأنه سيخسر تلقائياً 50% من الأصوات لأن الناخبين سوف يُحجمون عن اختياره لهذا السبب وأن كلاً من رئيسي البلديتين المذكورتين أقوى منه شعبياً لمواجهة أردوغان.
وفي إطلالة صحافية سريعة من سيارته، سُئل الرئيس أردوغان عن رأيه بانسحاب مارال أكشنار من طاولة خصومه السداسية فقال: "لا نهتمّ بتساقط الحصى، نحن نعمل من أجل الناس وهُم يعملون لمصالحهم"، وتعبير أردوغان بحق الآخرين يستوقفنا الى حدود الدهشة، لأنه أكثر شخصية براغماتية وصولية ليس على مستوى تركيا فحسب، بل في المحيط الإقليمي والعالم، وهذا ما سوف يحصده خلال ولايته المقبلة خارج حدود دولته التي كان يحلم بإعادتها الى زمن السلطنة والهيمنة من سوريا الى أوروبا، وهذا فعلاً ما قاله فيه خصومه عندما حوَّل نظام الحكم في تركيا من برلماني الى رئاسي، وبنى قصر البهرجة الرئاسية على طريقة القصور العثمانية المهيبة.
ونستطيع الجزم، أن كارثة الزلزال هي التي سوف تُعيد أردوغان شعبياً الى الكرسي الرئاسي مجدداً، ليس لشخصه، بل لحاجة الناس الى سقفٍ يأويهم ولقمة عيشٍ بين الركام الذي لا يستطيع أن يعتليه أحدُ سوى أردوغان للوصول الى سدَّة الرئاسة رغم معرفة نصف الأتراك بمساوئ الرجل على المستويين الداخلي والخارجي. في الداخل، لا إسلام اردوغان يُرضي جماعة فتح الله غولن الإسلامية المتشدِّدة، ولا الأجيال التركية الطالعة المُطالبة بالحريات راضية، وعلى المستوى الحزبي فهو عدو الحزب الجمهوري الرافض للنظام الرئاسي ومعه كل الأحزاب المطالبة بالديمقراطية التي ارساها أتاتورك وجعلها أمانة بين أيدي الجيش الذي طوَّعه أردوغان وجعله تحت سلطة الحكومة، سيما وأن عهد أردوغان شهِد رغم النهضة الاقتصادية والعمرانية والسياحية، فضائح فساد أبطالها المقرَّبون منه بدءاً من صفقات الانتفاع الشخصي ووصولاً الى ارتكابات المقاولين الذين خالفوا قواعد البناء المقاومة للزلازل ووضعوا حشوات خشبية في الأعمدة لتوفير الاسمنت وكل ذلك فضحته الصور والفيديوهات لأبنية حديثة بُنيت في عهد أردوغان.
ولأن الرجل يبالغ في براغماتيته مع الخارج، ويتظاهر بأنه مسلمٌ معتدل أمام أوروبا رغبة منه بانضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، ويهدد هذه القارة بين حينٍ وآخر بتصدير المهاجرين غير الشرعيين إليها، ويتعامل مع أميركا أنه رأس حربة حلف الناتو في المتوسط ولا يقطع حبل الودِّ مع روسيا، وفي مصر هو“أخواني” متشدِّد يرغب باستحضار إرث حسن البنا الذي قامت حركته على مبدأ استعادة الخلافة الإسلامية بعد زوال آخر ولاية إسلامية عثمانية، وهو يتعامل مع سوريه، وكأنها جزء من أمجاد السلطنة وأحلام التوسُّع، وهو مع إسرائيل قومي تركي عقد عام 2010 ستين اتفاقية معها لحماية تركيا، ووصلت به الأمور مؤخراً أنه بات وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا في رعاية اتفاقيات توريد الحبوب وأنه يُطعِم العالم، الى أن بلغت به القوة حدود وضع فيتو على انضمام فنلندا والسويد الى حلف الناتو بذريعة إيوائهما "إرهابيين" من حزب العمال الكردستاني.
هذه الهالة التي بناها الرئيس أردوغان لنفسه على مدى عشرين عاماً من حياته السياسية، قد تكون أسوأها على الإطلاق جزئية جموحه السلطوي العثماني واعتقاده أن موقع تركيا الجيو - سياسي يسمح له بإدارة اللعبة السياسية الإقليمية على طريقته ولكن للأسف، جاءت الطبيعة الجيولوجية لتُرفمِل أحلام السلطان التوسعية وتُعيده الى القمقم الداخلي، وأقصى هذه الأحلام إعادة بناء ما هدمته الزلازل على امتداد خارطة بلاده الراقدة على فوالق زلزالية من جنوبها المنكوب الى وسطها وشمالها، ما قد يجعله أكثر واقعية في مقاربة الداخل التركي وأكثر حكمةً مع الإقليم والعالم، من على عرشه الراقد على رُكام..