الثبات - التصوف
العقيدة أساس التصوّف
تعريف التصوف
للتصوف عدة تعريفات أهمها:
-العمل بالعلم، وقالوا أن الفقهاء عملوا بعلمهم لكفونا.
- بأنه قلع الأخلاق الذميمة وغرس الخلاق الحميدة، وهو ما يُسمى بالتخلية والتحلية.
-بأنه الأخلاق، فمن زاد عليك في الأخلاق زاد عليك في التصوّف.
فهو بهذا أسلوب تربوي لتطبيق الأحكام الشرعية الظاهرة والباطنة، والأساليب التربوية تختلف في ظاهرها والمقصود واحد، وهذا ما نجده في كتبهم، فإذا فهمناه بهذه المعاني لا يشك مسلم بعد ذلك في أنه خير وبركة وعمل بمقتضى الإسلام. ولا يهمّنا بعد ذلك من أين جاءت كلمة (التصوّف)، فإنّ استقامة شؤون الإنسان مطمح يبتغيه أهل الهمم العلية، وأصحاب النفوس الأبية، وهذه الاستقامة ذات مبدأ لا يزال يترقى في الكمال حتى يبلغ أقصى الأماني الإنسانية، وقد اهتم علماء الشريعة الإسلامية بتكميل الإنسان بشتى أنواع الكمالات، وأشهرها ثلاثة: الكمال العقليّ ويختص به علم العقيدة والكلام، والعملي ويبحثه علم الفقه، والروحيّ وهو التصوف.
وغاية الكمال الروحي تمكّن الإنسان سلطاناً في مقام إنسانيته، حرّاً عن رقّ الأغيار، ثمّ تمكّنه عبداً خالصاً في مقام ربوبية الحقّ، فمن زادت درجته في هذا الكمال تحققت درجته في التصوف.
انحراف بعض الصوفية
لكن لا ننكر أن البعض انحرف في فهم التصوّف، فجعل فيه حلولًا، واتحاداً، وإباحية، وإسقاطاً للتكليف، وكلاماً لا يُقرّه الإسلام، وهؤلاء يجب التبرِّي منهم، فهم ليسوا مسلمين أصلاً، والدفاع عنهم دفاع عن الباطل، والتماس الوجوه البعيدة في تأويل كلامهم إقرار خفيٌّ بما يقولون، وهم الذين شوّهوا التصوّف، ولولاهم لما تجرّأ أحد على ذمّ أهل التصوّف، فهم أول أعداء التصوّف.
تكامل العقيدة الصحيحة والتصوف
من المبادئ الهامة عند علماء الشريعة الإسلامية، أن كلّ ذوق أو وجدان أو كمال صوفي فهو مقيّد بالأساس الاعتقادي المبني على الدلائل اليقينية، سواء كانت دلائل عقلية أو نقلية، إذ لا قوام للعالي إلا بما يؤّسسه مما هو دونه، كالبناء لا يقوم إلا على أساس، ومن ههنا كان قولنا: "العقيدة أساس التصوف".
وممن نبه إلى هذا المبدأ الهام أئمة كبار في مذهب أهل السنة والجماعة ممن جمعوا بين علم الكلام والفقه والتصوف معاً، مع معرفتهم بمذاهب الأمة الإسلامية، وأصول الفرق، وإحاطتهم بأغلب العلوم العقلية والنقلية، وهؤلاء كثيرون، منهم الإمام القشيري، وحجة الإسلام الغزالي، والعارف بالله الشيخ زروق، والإمام تاج الدين السبكي، وعلى هذا المبدأ الهامّ تقررت مسالك أهل التصوف المقبول عند أهل السنة والجماعة من الأشاعرة والماتريدية ومن وافقهم من فقهاء المذاهب الأربعة المعتبرة.
أما الإمام القشيري الأشعري فقد بدأ رسالته القشيرية بأبواب الاعتقاد، قال رحمه الله تعالى [الرسالة القشيرية، طبعة الشرفاوي، ص84]: "اعلموا رحمكم الله أنّ شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصولٍ صحيحة في التوحيد، صانوا عقائدهم عن البدع، ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، عرفوا ما هو حقّ القدم، وتحقّقوا بما هو نعت الموجود عن العدم، ولذلك قال سيد هذه الطريقة الجنيد رحمه الله: (التوحيد إفرادُ القدم من الحَدَث، فأحكموا أصولَ العقائد بواضح الدلائل ولائح الشواهد)، كما قال أبو محمد الجريري رحمه الله: (من لم يقف على علم التوحيد بشاهد من شواهده زلت به قدم الغرور في مهواة من التلف)، يريد بذلك: أن من ركن إلى التقليد ولم يتأمل دلائل التوحيد؛ سقط عن سَنَن النجاة، ووقع في أسر الهلاك" انتهى.
ويقول الشيخ العارف بالله أحمد زروق الأشعري المالكي رحمه الله تعالى [قواعد التصوف، قاعدة 4]: "صدق التوجه مشروط بكونه من حيث يرضاه الحق تعالى وبما يرضاه، ولا يصح مشروط بدون شرطه، {ولا يرضى لعباده الكفر} [الزمر: 7]، فلزم تحقيق الإيمان، {وإن تشكروا يرضه لكم} [الزمر: 7]، فلزم العمل بالإسلام".
وكذلك فعل حجة الإسلام الغزالي الأشعري رحمه الله تعالى، وذلك حين جعل الاعتقاد في أوائل كتاب الإحياء وكتاب الأربعين في أصول الدين، حيث قدمه على ما يليه من الأمور الروحية باعتبار أن العقيدة أصل للتصوف وأساس له.
وكذلك فعل الإمام تاج الدين السبكي الأشعري الشافعي في كتابه الأصولي جمع الجوامع، حيث ذكر في خاتمة الكتاب مسائل في العقيدة وقدمها على مبادئ التصوف، ثم لما شرع في ذكر مبادئ التصوف، وضع أول مسألة فيه وجعلها بمثابة باب التصوف، وهي مسألة المعرفة بالله تعالى والإيمان به، وهي من أهمّ مسائل الاعتقاد، فكأنه يرشدنا إلى هذا الأمر الذي نقرره، وهو كون العقيدة جارية في التصوف مجرى الروح من الجسد.
وعلى هذا النمط؛ جاءت عبارات أهل التصوف المقبول من أهل السنة والجماعة من الأشاعرة ومن وافقهم شاهدة بحقيقة مفادها: أنّ من لمْ يوجد منه الإيمان لم يصحّ له تصوّف، حتى حكوا عن الجنيد وغيره من أئمة الصوفية في تأسيس التصوف على الأصول والعقائد والأدلة العقلية ما حكوا من العبارات الكثيرة، ومنها [طبقات الصوفية للسلمي، ص76]: "... سمعت الجنيد يقول: قال أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنة".
ولذلك وجدنا المتقدمين من أهل التصوف يبينون هذه الحقيقة، وقد اعتادوا أن يبدوأ كتبهم بذكر العقيدة الصحيحة ويبينونها على منهج أهل السنة والجماعة وفق الأدلة العقلية والنقلية، كما سبق نقله عن القشيري، وكما نجده في كتاب التعرف لمذهب أهل التصوف عند الكلاباذي الحنفي (ت380هـ)، وظلّت هذه العادية جارية حتى التزمها المتأخرون من أهل التصوف، يبينون فيها انضباط الأذواق والمواجيد بميزان الأدلة اليقينية عقلية ونقلية، قال الإمام علاء الدين والدولة الشاهرودي البسطامي الشهير بـ [مصنفك ت857هـ] من علماء الخلافة العثمانية: "اعلم أن الله عزّ وعلا نصب في العقبى موازين ليعرف بها مقادير الأعمال، كذلك نصب بكمال فضله في الدنيا موازين ليعرف بها صحة الأعمال وصحة الاعتقاد، فميزان الله عز وعلا ثلاثة: العقل، والكتاب، والسنة، وكل هذه الثلاثة ميزان لا بد منه" [حل الرموز ص286].
فكلمة الإجماع التي لا يدحضها نزاع: أنّ العقيدة أساس التصوف، فمن طلب التصوف بغير اعتقاد، فهو يتعب في غير مراد، ومن أنكر التصوف جملة فكأنما يحجر الكمالات الإنسانية ويقتصر على مدى نظره القاصر، ويحجر واسعاً، بل يسعى في الخراب من حيث لا يشعر، فنعوذ بالله من شرور الطرفين، ونسأل الله الثبات على العدالة والاستقامة.