الثبات - مقالات
حقائق يجب أن يعلهما كل مسلم عن القدس
الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
الحقائق التي يجب أن يعلمها كل مسلم عربياً كان أو أعجمياً، وأن يعلمها كل عربي مسلماً كان أو مسيحياً، أنّ مدينة القدس التي تقدست بمسجدها الأقصى، أقدس أجزاء وطنه الذي يعيش في ربوعه ويفديه بحياته، بعد مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبيت الحرام، ومهما طال زمن اغتصابها، وامتّد أمد العدوان عليها، ومهما تكاثر جنود الباطل الذين يؤيدون الاغتصاب ويقرّون العدوان، ويتجاهلون الحق وأصحابه، فإن ملكية الأوطان لا تسقط بالتقادم، وإنّ تطاول أمد الاغتصاب لا يحيل الباطل إلى حق، ولا يقلب العدوان إلى امتلاك.
منْ هذا الذي قال: إنّ حق الأمة في قدسها المقدس، وإنّ واجب حمايته المثبت في أعناقها، من قال: إنّ كليهما عارض يأتي ويمرّ، كما تمرّ خضرة أوراق الشجر، ما تلبَثُ أن تصفرّ مع قدوم أيام الخريف، ثم تذبلَ، ثم تسقطَ لتكون غنيمة باردة للملتقط الدخيل؟!
يقول التاريخ: إن القدس بما حولها حُرِّرت من الاستعمار الروماني الذي ظل جاثماً على صدرها لعدّة قرون، وعادت حقاً شرعياً إلى أهلها وذويها من مسلمين ومسيحيين ويهود، عن طريق الفتح الإسلامي. وتفيأ الكل ظلال الدولة الإسلامية التي ضربت المثل الأسمى للعالم كله في العمل على إسعاد رعاياها كلهم، من خلال الاحتكام إلى ميزان العدالة الإسلامية التامة التي ظلّت متسامية على فوارق الدين والمذهب واللون واللغة. لقد ظلت لهفتها على جميع مواطنيها كلهفة الأم الرؤوم على أولادها دون أي تفريق. ولم يكن الفضل في ذلك عائداً إلى مجرد سياسة راشدة تميز بها الأئمة والخلفاء. بل كان مصدر ذلك ضرورة تطبيق المبادئ والأحكام الإسلامية التي نصّ عليها كتاب الله وزادها تأكيداً وبياناً خاتم الأنبياء محمد رسول الله.
ولقد مرّت الأجيال والقرون دون أن يسجل التاريخ أو أي من متابعيه عكراً أو سحابة من سوء التعامل، مرت على علاقة ما بين المسلمين وغيرهم. يشهد بذلك تلاقي المسلمين مع مواطنيهم الكتابيين في خندق واحد، لردّ غائلة العدوان الصليبي على فلسطين وما حولها من بلاد الشام، وأن عدد المسيحيين كان يساوي عدد المسلمين إلى ذلك التاريخ. تلك هي الدولة الإسلامية الخاضعة لسلطان الحق والعدل، واحتضنت رعاياها تسوسهم بل تخدمهم بغيرةٍ لا تتفاوت، وبتقدير لا يتقاطع. ولقد كان من أبرز شعاراتها المرفوعة والمطبقة، ذلك الشعار الشرعي القائل: " ألا يُفتَنَنَّ نصراني عن نصرانيته ولا يهودي عن يهوديته " ثم جاء عهد القرصنة الدولية، فاستلَبَتْ الحق من أصحابه. وخلال ظلام ليل داكن من المؤامرة ذات الخيوط البريطانية المعروفة، هُدِّمت دعائم حق شرعي قانوني فوق أرض فلسطين، وأقيم في مكانه كيان إسرائيلي، له أن يتمتع برغائب لا حدود لها، وأن يستهين في سبيلها بكل ما هو مرسوم من القوانين والقيم الدولية والإنسانية، بل أن يمضي ويدوس عليها كما يشاء. وفي ظل هذه الصلاحية التي تملكتها، احتلت كل ما طاب لها أن تحتلّه من البقاع وفي مقدمتها القدس، وراحت تبني ما تشاء من المستوطنات لمن تستقدمهم إليها من أطراف العالم، راحت تبنيها على أطلال بيوت استلبتها فهدّمتها وطردت سكانها وأصحابها الشرعيين بكل ما تشاء من وسائل الإرهاب والقتل وأنواع البطش. وها هي اليوم ما تزال تمارس إجرامها هذا دون توقف. وإنها لماضية في ترسيخ المزيد من أقدامها، على القدس التي احتلتها والتي تصرّ دون تراجع على أنها لن تتخلى عنها، رامية بذلك حق الأمة وصرخة القانون الدولي وراءها ظهرياً، بل تحت أقدامها أيضاً إن اقتضى الأمر.
وبعد فهذا هو موقف إسرائيل من البقاع التي احتلتها، وفي مقدمتها القدس والمسجد الأقصى. فما هو موقف الإسلام؟ وما هو موقف الأمة الإسلامية ومنظمة التعاون الإسلامي من هذا الذي تتحدى إسرائيلُ به العالم كله.
أما الإسلام فيقول فيما تقرره أحكامه وشرائعه؛ إن فلسطين وقلبها الذي هو القدس، أصبحت منذ الفتح الإسلامي دار إسلام، داخلةً في حوزة الأمة الإسلامية، ودارُ الإسلام لا تنحسر عنها هذه الصفة مهما تألب عليها العدوان أو امتدت إليها يد الاغتصاب، فيما تقرره الشريعة الإسلامية. ومن ثم يجب على المسلمين جميعاً ردع أي عدوان يتجه إلى بقعة ما من ديار الإسلام، كما يجب عليهم جميعاً العمل بكل السبل على استنفاذ المغصوب منها وإعادة الحق إلى أصحابه.
أجل. هذا ما تقرره الشريعة الإسلامية. أما ثلّة من الناس الذين يُخضِعون الإسلام في جملته وتفاصيله لرؤاهم السياسية فيُصرّون على نسخ هذا الحكم المقرر في سائر مراجعه، معلنين عن حرمة التوجه إلى زيارة المسجد الأقصى وقدسه، لأنه لم يعد اليوم (وقد دخل في حوزة إسرائيل) دار إسلام!. صحيح أن رسول الله قال مخاطباً أصحابه والمسلمين جميعاً إلى يوم القيامة فيما رواه ابن ماجه والبيهقي بسند صحيح " إئتوه (أي المسجد الأقصى) فصلوا فيه، فإن الصلاة فيه كألف صلاة في غيره " ولكن في أصحاب العمائم اليوم من يرى أن السياسة الراهنة تملك نسخ هذا الذي أمر به رسول الله. ولئن لم يجد في نفسه الجرأة التي تدعوه إلى هذا الاقتحام، فإنه في أولياء أمره من يملك أن يدخل في نفسه هذه الجرأة، وأن يجعله يقدم على هذا التعالي على أمر رسول الله.
أيها السادة: حدثتكم عن موقف الإسلام الذي لا أعلم أي خلاف فيه. بقي أنه علينا أن نتساءل عن موقف الأمة الإسلامية المتمثلة في قادتها وشعوبها تجاه الواجب الذي تقرره شريعة الله في معالجة هذا الحق المغتصب. ولقد علمنا الآن أن هذا الواجب ليس منوطاً بأهل إقليم دون غيره. وليس منوطاً بالأمة العربية خاصة من دون سائر الناس، وإنما هو مسؤولية الأمة الإسلامية جمعاء متمثلة كما قلت لكم بقادتها وشعوبها. غير أن المؤسف والمؤلم أن الشعور بهذه المسؤولية التي أناطها الله بأعناقنا جميعاً، قد انحسر عن بال أكثر المسلمين، لا سيما أولئك الذين تفصلهم عن القدس ومأساتها وِهادٌ وجبال وآماد. ثم ازداد الشعور بذلك تقلصاً، حتى كاد ينحصر في أفكار وأفئدة أصحاب النكبة أنفسهم، أولئك الذين هُجِّروا من ديارهم وحرموا من ممتلكاتهم، دون أن يقف معهم على أرض المقاومة والمعاهدة على وحدة المصير إلا جيران لهم عاهدوا الله على الوفاء ونصرة الشقيق؛ حتى وإن غدت الأرواح هي القيمة التي لا بدّ من بذلها للوفاء واستحصال الحق، ولقد كان في قضاء الله أن يكون هذا الجار الوفيّ هو سورية.
ثم إذا نظرنا فوجدنا إخوة لنا كانوا من أعزّ أصحاب الديار المغصوبة، استقامة على النهج وتمسكاً بالميثاق، وسيراً على صراط الله، قد أدركهم اليوم ما صرفهم عن النهج وأنساهم خطورة الميثاق، فها هم أولاء وقد آثروا الدعة وركنوا إلى حياة الترف، يذكروننا بقول الشاعر العربي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي