مقالات مختارة
في حياة الشعوب وتاريخها حقيقة واحدة أساسية، وفارقة، وهي أن الأحداث المكتوبة بدم الفداء على صفحة الأيام باقية، وهي البناء الصلب من حجر صلد، أما غيرها من تصرفات، مهما بلغ الإجماع عليها، فتظل حركة فوّارة، وهي مثل كل فوران تتلاشى مع الوقت وبتغير الظروف، أو صيحة برّاقة خاطفة، لا تلبث هي الأخرى أن تضعف وتخفت مع الأيام وتذهب إلى الظلام والنسيان.
مهما كتب عن الشهيد القائد عماد مغنية - الحاج رضوان - لا بد من القول بداية إن التواريخ في حياة القائد العظيم تحولت إلى أيام تملكها أمّته، التي عاش وقاتل واستشهد من أجلها، أكثر مما يمكن اعتبارها تواريخ لشخصية نبيلة وعظيمة، وأنه ينتمي إلى فئة الأمراء النورانيين، من امتلكوا القدرة والجرأة على كسر المألوف وتجاوز الحدود، ومقارعة أنفسهم وغيرهم في سبيل كلمة الحق وراية الصدق.
وهكذا فإن المطلوب من الكتابة عن الحاج رضوان، ليس استردادًا للماضي بكل أبهته وتألقه، ولا هو اجترار وقائع وحوادث عظمى صنعت حاضر اليوم، ولا التذكير بمشاهد النصر والمجد الخالدين في معارك الشرف والدم، في لبنان والوطن العربي، بل هي أولًا زيارة إلى شخصية ملهمة صادقة، قدمت أروع النماذج للنبل الإنساني في كل وقت وكل مكان، زيارة لتجديد المعرفة وتمتين أواصر الفهم والدرس لسيرة قائد استطاع بسيرته الجليلة المتوّجة بالشهادة، أعظم وسام سماوي، أن تضع الإجابة الصحيحة عن السؤال المتردد كصيحة مدوية منذ قرون طويلة "إلا من كان باذلًا فينا مهجته"، للإمام سيد الشهداء عليه السلام.
استطاع القائد خلال سنوات طويلة من عمل جهادي وصفه الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله بأنه "صدقة سر مع الله"، أن يصفع القوة الأولى والعظمى في عالمنا، ومرة بعد الأخرى، بشكل يفوق كل وصف وتعجزه أية مفردات فخر وعزة في اللغة، من كسر أقدامهم وكنس المارينز في بيروت، إلى قطع رؤوس الفتنة الـC.I.A، ومن طردهم نهائيًا إلى تحطيم غرور غطرستهم وتجبرهم، بشكل جعله –على الدوام- أهم هدف مطلوب للولايات المتحدة، وعدوها رقم واحد في المنطقة.
أما عن العدو الصهيوني، فإن الحاج عماد كان قادرًا على أن يحوّل هذا الكيان من الغول في أعين أغلب العرب إلى وجوه مرعوبة يغطيها الدم والدموع، وتتلازم الانسحابات والخيبات مع صورة جنوده المذعورين، وبعد عصور طويلة وقبيحة من الهزائم العربية المذلة في مواجهته، لم يعد أكثر المتفائلين في الكيان يستطيع تخيل سيناريو حرب ضد حزب الله من الأصل.
العام الماضي 2022، شهد كسر آخر ما تبقى من وهم صهيوني، وهو الردع، حين نطق سماحة السيد كلماته الخالدة "كاريش وما بعد كاريش"، ليضع الكيان والعالم العربي أمام الحقيقة الجديدة، وهي أن الفعل لم يعد حكرًا على القوة الصهيونية، ولا باتت التهديدات أو التخويف قادرة على كسرنا وإرغامنا على قبول الفتات، كانت معركة كاريش كلها، ومن البداية إلى النهاية، اختبارًا أعلى للإرادة الحرة وللإمكانيات العربية على المواجهة وتكاليفها وتبعاتها.
ومن العسير أن يكون الحديث عن عماد أحلام فلسطين، ونفوّت بخفة على ما شهدته أرض فلسطين، خصوصًا خلال العامين الماضيين، من تغييرات شاملة في قواعد وشروط المواجهة مع كيان العدو. وإذا كان لبنان قد فرض شروطه ووضعه الجديد على الكيان، وأجبره ذليلًا على القبول بما لم يقبل به في أي وقت، سواء الانسحاب دون معاهدات أو شروط في 2000، أو فضح العجز في 2006، وصولًا إلى التنازل عن حقول لبنان البحرية تحت ضغط البندقية، فإن فلسطين هي الأخرى بدأت في كتابة مسلسلها الخاص للمواجهة وسعيها إلى الانتصار.
إن أية نظرة على خريطة فلسطين الحالية وتأمّل لها، كفيلان أن يولّدا عوامل واحتمالات لا بد من إدخالها في أي حساب للحوادث والتطورات الجارية على الأرض، وبشكل عام فإن الناظر إلى خريطة تتداخل فيها القرى والمدن التاريخية الكبرى وتقطعها المستوطنات والحواجز الحديثة المفتعلة، سوف تعيد التذكير بحقائق تبدو بديهية، لكنها في بعض الأوقات تغيب عن العقل الواعي، في ظل زحام الحوادث.
الحقيقة هي أن كل عملية فلسطينية بطولية، تجري ضد جيش الاحتلال أو قطعان مستوطنيه، تمثل ضربة هائلة في قلبه الهش، والانعكاسات الدامية التي تقع في القدس والضفة ضد كل جريمة صهيونية، والتهديد الذي تمثله غزة بقدراتها المتنامية على ضرب الرقعة الحيوية الضيقة والمحصورة للكيان، باتت هي أول وأهم عوامل التهديد، ليس على مستقبل وجود المشروع الصهيوني، بل على فرضية بقائه أصلًا.
ما فعله الحاج رضوان في لبنان وفلسطين هو أنه ترجم قناعاته الإيمانية إلى أفعال صادقة ومباشرة، بناء الفرد والقدرة، وكل ما أدخله القائد على معادلة الصراع مع العدو الصهيوني كان حل أزمتنا بالأثر الإيجابي الخلاق للإيمان والفداء، ولخصها في "بناء القدرة انطلاقًا من تطوير قدرات الأفراد"، وحين تتحقق هذه المعادلة البسيطة –لكن العميقة- على أي أرض، يمكنك أن تضع كل آمالك مطمئنًا إلى حتمية الانتصار القادم.
أحمد فؤاد ـ العهد