ثواني الزلزال التركي، كافية لبلوغ ساعة الحقيقة... ـــ أمين أبوراشد

الثلاثاء 14 شباط , 2023 10:11 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

ليست الحركة المتكررة في الفوالق البركانية والصفائح التكتونية التي تحتضنها الأرض التركية، ناتجة عن عوامل طبيعية خالصة، والنكبة الكارثية التي أسفر عنها "الزلزال التركي" تدعو ليس الى سنوات من دراسة للطبيعة الجيولوجية في البلاد، وهي معروفة، بقدر الحاجة الى إعادة نظر علمية في الارتكابات التي أثقلت باطن الأرض، بأبسط مثالٍ تناوله الكثير من الخبراء بعد وقوع الزلزال، أن تركيا التي ينتشر فيها 579 سداً مائياً تختزن 653 مليار متر مكعب، وأن سد أتاتورك وحده يحتوي على 48 مليار متر مكعب وظهرت فيه تشققات بعد الزلزال، مما استوجب تدخل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأنه، وأمر بفتحه تداركاً لانهياره في حال تكرار الهزات الارتدادية العنيفة.

الحرص التركي على سدود التخزين، لا يرتبط بالحاجة الى إنتاج الطاقة الكهرومائية والريّ والاستخدامات السكانية، بقدر ما أن تركيا تعتبره مخزوناً استراتيجياً من جهة، ومن جهة اخرى، اعتماده سلاحاً فعالاً لتصحير أراضي الغير لأسباب سياسية ترتبط بالصراعات الإقليمية، عبر فرملة تدفُّق المياه الى العراق وسوريا، سواء عبر نهري دجلة والفرات أو عبر نهر الخابور الذي تمّ تجفيفه بالكامل من المنبع التركي منذ ثماني سنوات بهدف تصحير سهول الشمال السوري وخصوصاً منطقة الحسكة، تماماً كما حصل لواحات النخيل في العراق على جانبي نهر دجلة.

ويؤكد الخبراء، أن تدفُّق السيول في مجاري نهريّ دجلة والفرات داخل الأراضي العراقية والسورية الآن، ليس ناتجاً فقط عن تشققات في بعض السدود التركية بعد الزلزال، بل هو قرار تقني بحت، بوجوب التخفيف من مخزونات بعض السدود العملاقة تفادياً لكارثة انهيارها جزئياً أو كلياً جراء الهزات الارتدادية التي فاقت الألفين منذ حدوث الزلزال الأكبر، وأن انهيار بعض السدود التركية الكبرى قد يؤدي إلى جرف مدن وقرى في تركيا نفسها وصولاً الى العراق وانتهاءً ببعض بلدان الخليج.

ورغم مخاطر بناء السدود العملاقة على أرضٍ هي بطبيعتها متحركة زلزالياً، فقد تسارع بناء المزيد من السدود في السنوات الخمسين الأخيرة، بهدف التخزين المُستدام والمُفرط، وبذريعة المخاوف من التغيير المناخي والتهويل العالمي بالزحف الصحراوي، وأن أية حربٍ قادمة ستكون حكماً حرب مياه، علماً بأن تركيا هي من أولى دول العالم التي تستمطر الغيوم صناعياً في حالات احتباس المطر، تماماً كما يحصل حالياً في دولة الإمارات العربية المتحدة عبر الطائرات الخاصة بنثر مواد ملحية في السحاب للاستمطار، مع وجود فوارق مناخية هائلة لصالح تركيا ولا تُقارن طبيعتها المناخية الباردة وتضاريسها الجبلية بالبلدان الصحراوية الحارة، ولا مبرر بيئي بنظر الخبراء، يدفع بالحكومات التركية المتعاقبة الى المكابرة في إنجازات السدود فوق الأرض على حساب الباطن الذي يُعتبر ضغط السدود عليه وتغلغل المياه في الآبار الجوفية والطبقات الصخرية فيه من العوامل المساعدة على رفع درجة قوة الزلازل.

آراء الخبراء وكبار المجتهدين حول أزمة المياه عالمياً كثيرة، والخلافات حول البروتوكولات والقوانين الدولية التي تُنظِّم اقتسام المياه النهرية تحديداً من المنبع الى المصبّ مع احتساب مساهمات الروافد في توزيع الحصص، زادت الخلافات التي نشأت اقتصادياً وسياسياً وعلى شفير الصراع العسكري بين الكثير من الدول المتجاورة، وهي ليست حصراً بين تركيا والعراق وسورية بعد إسراف تركيا في بناء سدود عملاقة، ولا بين أثيوبيا والسودان ومصر حول مياه النيل ومشكلة سد النهضة الذي أقامته أثيويبا دون التوافق مع الدولتين صاحبتي الشأن، ولا هي بين "الكيان الإسرائيلي" مع الأردن وفلسطين المحتلة، بل في ظاهرة برزت منذ سنوات عبر اتفاقيات ضمنية بين تركيا وأثيوبيا و"إسرائيل" لتطويق الدول العربية المستفيدة من المواثيق الدولية في اقتسام الثروات النهرية معها، واستغلال نقاط ضعف المواجهة لدى عراق ما بعد صدام حسين، وسورية التي اجتمعت عليها كل عصابات الإرهاب العالمي، وواقع الحاجة الاقتصادية لدى مصر والأردن وأراضي فلسطين المحتلة، واستغلال الأوضاع المالية في هذه البلدان في شنّ الحروب المائية الاستباقية عليها حتى العطش!

وبالعودة الى تركيا، فإن نهري دجلة والفرات لم يكونا موضع خلاف مع العراق وسورية عندما كانت الدول الثلاث تحت سلطة الدولة العثمانية، لكن بعد العام 1918، باتت المياه النهرية مياهاً دولية خاضعة للتقاسم، وبالتالي، نشأت الخلافات التي انطلقت من دولة المنبع التي هي تركيا، في استغلال غير مشروع لواقع الأزمات الوجودية التي واجهتها كل من العراق وسوريا، خصوصاً خلال حكم الرئيس رجب طيب أردوغان الذي استخدم سياسة بناء المزيد من السدود التركية لأسباب محض سياسية حتى آخر نقطة مياه والى آخر هزَّة زلزال!

ونبلغ بيت القصيد ونتساءل: إذا كانت السلطات التركية قد ألقت القبض منذ ثلاثة أيام على أكثر من مئة مقاول ومهندس ورجل أعمال، في تُهَم ترتبط بسوء تنفيذ مقاولات الأبنية السكنية التي لم تصمد أمام الزلزال، مع شبهة استخدام مواد رديئة في أعمال البناء، وعدم مراعاة القوانين المرعية القائمة منذ 80 سنة بوجوب التزام شروط البناء ضمن معايير مقاومة الزلازل، فماذا عن السدود القائمة على شروخ بركانية، ومن هم أهل المسؤولية عن بنائها دون مراعاة علمية ودراسات جيولوجية عميقة، سوى أن الفساد الذي أباح رداءة التنفيذ الإسكاني دون رقابة، هو نفسه الذي أباح إقامة سدود قد لا تكون مدروسة على واقع أرض باطنها شروخ وفوالق بركانية وصفائح صخرية متحركة، وهذا حق أممي بالرقابة الدولية على تركيا بعد هذا الزلزال، وبعد أن باتت سدودها المائية تحتضن ما هو أخطر عليها وعلى كل دول الجوار من مخاطر التجارب النووية وتفجيرات المناجم واستخراج النفط والغاز من أعماق الآبار الأحفورية..


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل