أقلام الثبات
إذا كان الدستور اللبناني كما عدل في 9/11/1943 في مادته ال 95 قال : "بصورة مؤقتة والتماساً للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة". فإنه في زمن الانتداب الفرنسي قال أيضاً وفقاً لهذه المادة: "بصورة مؤقتة وعملاً بالمادة الأولى من صك الانتداب والتماساً للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة".
هذا المؤقت حددت له بعد اتفاق الطائف مدة زمنية، للخلاص منه حيث جاء في نفس المادة المعدلة في تاريخ 21 أيلول 1990: "على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بین المسلمین والمسیحیین اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقیق إلغاء الطائفیة السیاسیة وفق خطة مرحلیة وتشكیل هیئة وطنیة برئاسة رئیس الجمهوریة، تضم بالإضافة إلى رئیس مجلس النواب ورئیس مجلس الوزراء شخصیات سیاسیة وفكریة واجتماعیة. مهمة الهیئة دراسة واقتراح الطرق الكفیلة بإلغاء الطائفیة وتقدیمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفیذ الخطة المرحلیة. وفي المرحلة الانتقالیة:
أ- تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكیل الوزارة.
ب- تلغى قاعدة التمثیل الطائفي ویعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكریة والأمنیة والمؤسسات العامة والمختلطة وفقاً لمقتضیات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فیها وفي ما یعادل الفئة الأولى فیها وتكون هذه الوظائف مناصفة بین المسیحیین والمسلمین دون تخصیص أیة وظیفة لأیة طائفة مع التقید بمبدأي الاختصاص والكفاءة.
وعليه تم في العام 1992 انتخاب مجلس النواب على أساس المناصفة، لكنه ظل حبراً على ورق. إن وضع لبنان ونظامه السياسي المشوه بسبب تركيبة لبنان السياسية المعقدة والتي تقوم على جملة من التناقضات والاختلاف بين ما جاء في نصوص دستوره وما كرسه الميثاق الوطني المعروف بميثاق 1943، وميثاق الطائف واتفاق الدوحة وما درجت عليه الممارسة القائمة على جملة من التناقضات المرافقة للتطور السياسي والاجتماعي للبنان، والذي خضع دائماً لتداخل وتشابك مجموعة من العوامل التي كانت من جهة أولى تمثل علاقات الحركة والتفاعل بين مختلف الطوائف اللبنانية والتي تعيش على أرض لبنان، ومن جهة أخرى تأثير الضغوطات التي تمارسها الظروف والأوضاع الإقليمية والدولية، سواء بواسطة الطوائف والمذاهب لمصلحتها، أو لمصلحة إحداها ضد الأخرى، وعندما تفرض العوامل الإقليمية صيغة معينة لطبيعة العلاقات الطوائفية، فإن العلاقات والروابط الوثيقة التي تقيمها بعض الطوائف مع الخارج تعرض دائماً النظام السياسي والاجتماعي القائم للخطر، وهكذا تصبح الأرض مناسبة ومهيأة لظهور توتر معين كان يؤدي إلى الحرب الأهلية.
إن هذا التوتر يضفي على المسألة اللبنانية ملامح إقليمية ظاهرة، أو يعطيها طابعاً دولياً متزامناً في نفس الوقت، أو أن أحدهما يتبع الآخر، مترافقاً مع ضجيج "ديمقراطي" يزيد الأمور التهاباً، وهذا ما حدا بالرئيس سليم الحص أن يقول: "أن في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديمقراطية" مشيراً إلى ثغرات عديدة في النصوص، كما في الممارسة، تعيق التجربة الديمقراطية.
وقد حدد العلامة الدستوري الكبير الراحل الدكتور إدمون رباط مكامن الخلل بوضوح بقوله: "ليس في إمكان الميثاق (أي ميثاق) أن يبقي إلى الأبد على التوازن بين الطوائف في لبنان، ففي إمكان القوى النابذة في كل وقت الظهور والتسبب في تفكيك لبنان".
وهذا هو ما أصاب لبنان في مراحل مختلفة، فعندما استقوى كميل شمعون بالأحلاف الغربية (حلف بغداد، مشروع إيزنهاور) أدى إلى ثورة 1958. وهذا ما حصل عندما استقوت القوى الإسلامية والوطنية، بالقوى التقدمية العربية والثورة الفلسطينية، ما أدى إلى الحرب الأهلية (1975 - 1989). وهذا ما أدى إلى مزيد من الويلات وحروب الأزقة والزواريب، عندما استقوت القوى اليمينية خلال الحرب الأهلية بالعدو الإسرائيلي، فكان اجتياح حزيران 1982 ووصول بشير ثم أمين الجميل إلى رأس السلطة، مما أدى إلى مزيد من الانقسام في لبنان وبلوغ لبنان مرحلة الفراغ الرئاسي عام 1988 للمرة الأولى في تاريخه الاستقلالي، مما أدى إلى "اتفاق الطائف" الذي تسبب التطبيق العشوائي لبنوده والاستقواء بالوجود السوري، والضخ المالي السعودي إلى خلل كبير في بنية الدولة والنظام، والتفاوت بين المناطق.
وهذا ما زاد الانقسام والتوتر بعد تطورات 2005 إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكان المزيد من الانقسام بفعل التدخل الأميركي والخليجي على خط الأزمة، بحيث اعترف جيفري فيلتمان بدفع نصف مليار دولار لكسب انتخابات ذاك العام من قبل جماعة 14 آذا، ودفع السعودية ملياري دولار في انتخابات 2009 ...
وهذا ما يبدو أنه يحصل اليوم عبر الاستقواء بالأميركيين والفرنسيين وباعة الغاز العربي، بما يوحي بالانقلاب على كل صيغ الوفاق والاتفاق بما فيها الميثاق الوطني والصيغة .. وخصوصاً أنه بعد انفجار المرفأ، اخذنا نشاهد تدخلات عجيبة بعضها مرئي وبعضها غامض ف " FBI" زارتنا، والمخابرات الفرنسية، والبريطانية، مما يذكرنا بمراحل الاستعمار بشقيه القديم والجديد. تذكروا أنه في القرن التاسع عشر، جاءت البوارج إلى شواطئنا .. فهل نحن الآن في مرحلة ما قبل لبنان .. أو في مرحلة ما بعد أحداث 1840 أو 1860 .. ثمة حقيقة، أنه صار عندنا نوع من ميثاقية جديدة بدأ انتاجها منذ العام 1992، فتشكل منتج سياسي جديد، يفرض نفسه بقوة الاحتقان الطائفي والاطمئنان الطائفي وسط مناخات من التوتر والاحتقان الطائفيين يتحرك تحت عنوان الأوسع تمثيلاً في طائفته ... ( تعبير سياسي لا مثيل له إلا في لبنان) .
اذا كان اللبنانيون قد شهدوا في مرحلة "اتفاق الطائف" توسعاً في تأسيس الجمعيات الأهلية والثقافية والاجتماعية يرأسها ويشرف عليها مقربون جداً من كبار المسؤولين، تتلقى دعماً رسمياً هاماً، فإن هذه الجمعيات توسع تفريخها باستمرار، وأصبحت تنبت كالفطر مع اندلاع الأحداث السورية، بذريعة دعم ومساعدة النازحين، وكانت تقدم للنازحين من "الجمل أذنه".
هذه الجمعيات التي تندرج وفق التعبير الغربي، تحت عنوان "المجتمع المدني"، تنوعت وتعددت أشكالها وأنواعها وألوانها بعد 17 تشرين الأول 2019، حيث فرخت العديد من الجمعيات التي يقوم دورها على إيهام الغاضبين من الفساد والانهيار المالي والاقتصادي والمعيشي، بأنها تسعى إلى التغيير، وهي في حقيقتها أدوات سياسية تابعة للخارج الاميركي والغربي، وهكذا رأينا هذه الجمعيات بأسماء مختلفة، تنتشر كالنار في الهشيم في سوق "المساعدات" التي أوكلت إليها واشنطن والدول الغربية توزيعها الذي يتم على عدد من الناشطين التابعين لهذه الجمعيات، وباتت واشنطن وعواصم الغرب تعلن أن مساعداتها ستكون "للمجتمع المدني" وليس عبر الدولة. والمفارقة أن هذه الجمعيات في لبنان لا تخضع إلى الرقابة المالية ولا إلى شفافية الميزانية وشفافية البرامج والضرائب والمداخيل.
فهي في هذا السياق جزء لا يتجزأ من فساد الطبقة السياسية التي تخفي وظيفتها ومداخيلها في الخلط المشبوه بين العمل الخاص والعمل العام، فضلاً عن الترويج لنفسها بأنها "جمعيات مدنية" تطوّعية من دون مقابل مالي، لكن دايفيد هيل فضحها بإعلانه عن مليارات الدولارات التي قدمتها واشنطن لهذا "المجتمع" الزائف. وجمعيات "المجتمع المدني" في لبنان هي جزء لا يتجزأ من عمل المنظمات "غير الحكومية" التي اعتمدتها الدول الغربية في العمل للقضاء على دور الدولة وعلى الاستقرار الأمني والاجتماعي.
فقد مهّدت "للثورات الملوّنة" في أوروبا الشرقية، وتمهّد الطريق أمام حروب التفتيت في بلدان مختلفة من أجل تحويل البلدان إلى سوق تجارية حرّة وتحويل المواطنين إلى مستهلكين. المؤسسات والحكومات الأميركية والأوروبية تتوافق في لبنان على تمويل المنظمات "غير الحكومية" وتمويل جماعاتها، من أجل الاحتفاظ بالسياسة الاقتصادية ـ الاجتماعية الناتجة عن اتفاق الطائف التي تبنّتها الحكومات في لبنان طيلة عقود. على أساس هذا التوافق لم يصوّب الناشطون ومن ضمنهم "منصّات الحراك" وحتى منصّات التيارات السياسية، على منبع الخراب والانهيار الاقتصادي ــ الاجتماعي في هذه السياسات نتيجة مصلحة الطبقة السياسية الفاسدة في تبعيتها لوصايا صندوق النقد والبنك الدوليين و"الدول المانحة" في مؤتمرات باريس وغيرها عبر "المستشارين والتكنوقراط" في الحكومة والوزارات.
وفي ظل نشؤ ما يسمى " المجتمع المدني " يمكن القول أن الفساد لم يعد مقتصرا على الطبقة السياسية وحسب ، بل اخذ ينتشر افقيا وعاموديا ، وصار نوعا من حالة مجتمعية إن جاز التعبير ، جراء انتشار جمعيات " مدنية " تقوم بمهام تقديم المساعدات من خلال تمويل مجهول ومشبوه ، وقد أكد وزير الداخلية السابق العميد محمد فهمي على هذا الواقع في حديث تلفزيزني في 13 كانون الأول الفائت من العام المنصرم ، بتشديده : " أن الساحة اللبنانية مخترقة من أجهزة مخابرات دولية من خلال بعض المنظمات غير الحكومية التي يربوا عددها في لبنان حولي 11500 جمعية، نصفهم يعمل تحت أجنحة أجهزة مخابرات دولية، ضد لبنان.. هذه معلومات مؤكدة. " ، كاشفا أن "ضغوطا دولية مورست على الحكومة اللبنانية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين في لبنان" .
والعجيب أن "الأسواق السوداء" في لبنان صارت هي المحدد للأسعار أمام المواطن بما فيه حبة الدواء والرغيف. وصارت كثير من القرارات الرسمية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي تتخذ على "مقياس" السوق السوداء، وهكذا صرنا نجد لسعر صرف الليرة، عدة أسعار وفق قرارات مصرف لبنان، فصار للدولار الأميركي نحو خمسة أسعار رسمية بشكل عام، في كل أزمة مرَّ بها لبنان منذ نشوئه قبل مئة عام حتى اليوم، ثمة من يجيد اللعب ويعرف كيف يكدس الثروات، وخصوصاً المصارف، ففي الثلاثاء 29 آذار 1994، كتبت وول ستريت: "صرح لنا مصطفى رازيان الذي يعمل عند الحريري منذ 16 سنة، ويدير مصرفين من مصارفه فقال: "بعنا الدولار خلال الأشهر الثلاثة الأولى بعد تشكيل حكومة الحريري (تشرين الثاني 1992) وحققنا بذلك ثروة".
ولعل أول المستفيدين من التطورات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية هي المصارف التي تعرف يوماً بيوم أسرار الدولة اللبنانية على حد تعبير الوزير الأسبق الراحل هنر إده، وهي دائماً لها وجود في الحكومات اللبنانية المتعاقبة.. فهل من عجب بعد ، من اكبر فضيحة عرفتها البشرية ، والمتمثلة بسرقة ونهب جنى عمر المودعين اللبنانيين ، من قبل مصارف لبنان ؟! . ( انتهى )