أوهام التقسيم والفدرلة ـــ عدنان الساحلي

الجمعة 06 كانون الثاني , 2023 09:41 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

تتردد دعوات التقسيم والفدرلة وتتكرر هذه الأيام، بأصوات فئة طالما وصفها معظم اللبنانيين بـ"الإنعزالية". ويسجل لتلك الأصوات قولها، بلغة طائفية وعنصرية مقيتة، بانفعال أو ببرود حاقد: "لا نستطيع العيش معهم"، "لا نريد البقاء معاً"؛ و"كل قطيع يلحق قطيعه". في زلة منها، لأنها تدين نفسها، في اعتبارها أن اللبنانيين في ظل النظام الطائفي والعصبوي القائم، هم في عرف أركان هذا النظام، مجرد قطعان بشرية يقودونها، رغماً عن إرادة كل من يعارض هذه التقسيمات والتسميات، التي تحط من قدر اللبنانيين.

والواقع أن تجارب اللبنانيين مع أصحاب مثل هذه الدعوات، تفيد بأنهم مغرضون، يفضلون مصالحهم وارتباطاتهم الخارجية على مصالح البلد وأهله، لذلك لم يتعلموا من دروس مغامراتهم السابقة؛ ولا تعنيهم الأثمان التي تسببوا بأن يدفعها اللبنانيون أكثر من مرة.

وتكشف تجارب الزمن السابق، أن هذه الدعوات تبدأ "بهورات وهوبرات"، لكنها سرعان ما تتحول إلى مؤامرات تستقوي بالخارج وتستدعيه لينفذ لها مشروعها، مثلما حصل عندما استدعى الرئيس الراحل كميل شمعون قوات "المارينز" الأميركية، ليستقوي بها على معارضي قراره بضم لبنان إلى "حلف بغداد" الأميركي؛ وكذلك لرفضهم تمديد ولايته الرئاسية، حسبما أتهموه. والأمر نفسه حصل، عندما إستدعت "القوات اللبنانية" جيش العدو "الإسرائيلي"، ليوسع إجتياحه عام 1982 وصولاً إلى بيروت، ليساعدها في فرض إنتخاب قائد "القوات" في ذلك الوقت، بشير الجميل، رئيساً للجمهورية، مقابل التطبيع مع كيان الإحتلال. لكن مشروع ترئيس الجميل فشل باغتياله. واسقط مشروع التطبيع مع "إسرائيل".

بعض تلك الدعوات يصدرها أتباع مسترئسين، يبتزون اللبنانيين، فأما أن ينصبوا رؤساء على الجمهورية؛ وأما هم سائرون بالبلد نحو التقسيم، تحت شعار الفدرلة حيناً؛ والكونفدرالية حيناً آخر؛ واللامركزية الموسعة أحياناً، متجاهلين أن لبنان بلد صغير، لا يتعدى حجمه وعدد سكانه حجم وعدد سكان محافظة في بلد معتبر، فهو أصغر من أن يقسم.

وهناك من يرى أن التهويل بالتقسيم؛ ولو كان على حساب الكيان، هو وسيلة لإنقاذ النظام، الذي انهار مالياً واقتصادياً وخدماتياً، بفعل فساد أركانه. فلا مؤسسات تعمل ولا خدمات متوفرة ولم يتبق شيء من معالم دولة الرعاية وسلطتها، إلاّ الأجهزة الأمنية والعسكرية، التي بالكاد تقوم بدورها بفعل مساعدات واعانات من بعض الدول، ذات المصلحة في بقاء النظام اللبناني بوظيفته وخدماته في الإقتصاد والسياسة والدور الإقليمي، أي تابعاً للغرب يعتمد الإقتصاد المتفلت والمتوحش وليس الحرّ، كما يدعي المستفيدون منه؛ والمتورط دائماً في التآمر على كل نهوض عربي مناهض للهيمنة الغربية ولرأس حربتها "إسرائيل"، هذا النظام، هو برأي أهله أهم من الكيان، الذي رافقت تأسيسه إعتراضات من جهات عدة.

ولا ننسى أن مراجع سياسية ودينية رفضت بعناد، تطبيق بعض أبرز بنود إتفاق الطائف، خصوصاً الغاء الطائفية السياسية وإقامة مجلس شيوخ وتخفيض سن الإقتراع إلى ثمانية عشر عاماً. كما تتكرر نغمة أن هناك مناطق تدفع رسوماً وضرائب أكثر من مناطق، في خطاب يرفض السير بلبنان قدماً إلى الأمام، نحو دولة مدنية حديثة تعامل شعبها بمنطق المواطنة، لا بمنطق الجاليات الطائفية والعرقية. لكن على العكس من ذلك، يحلم البعض ويسعى للعودة إلى ما يشبه نظام المتصرفية والقائمقاميتين. أو إلى فدرلة نظام الحكم من خلال الوصول إلى لامركزية إدارية مشوهة، تتوسع لتكون غطاء لفيدرالية طوائفية واقتصادية ومالية.

وهناك من يظن أن التقسيم يخرجه من ورطة دخلها برجليه، عندما تبنى المعارضة السورية ودعمها وأعلن الحرب على الدولة السورية؛ وشجع نزوح المواطنين السوريين إلى لبنان، لإستغلالهم ضد بلدهم، مستندا إلى دعم الدول الغربية والعربية ذاتها، التي أشعلت الحرب على سورية ومولتها وسلحت جماعات الذبح والقتل والتكفير، التي خربت سورية وكشفت علاقاتها التبعية بالعدو "الإسرائيلي". لكن من يضمن أن القرار الغربي والعربي القاضي بمنع عودة النازحين إلى بلادهم، لن يبقيهم في كانتونات الطوائف المزمعة.

ويجد الذين أفسدوا في حكم لبنان ونهبوا أمواله وثرواته وأذلوا شعبه، في الفدرلة ملاذاً لهم، يهربون إليها بأموالهم بحماية "قطعانهم" الطائفية، كي لا تتم محاسبتهم، حتى لو كان ذلك تحت دخان حريق داخلي، يسعى التحالف الأميركي و"الإسرائيلي" لإشعاله، فيحقق به هدفين هامين له: ضرب المقاومة في لبنان، أو إغراقها في وحول حرب داخلية، من ضمن حربه على محور الممانعة؛ والإستمرار في مخطط تقسيم الدول والكيانات العربية، بما يكفل بقاء وتعاظم قوة الكيان الصهيوني في المنطقة، قائداً وآمراً لها؛ وهو الذي يواجه خطراً وجودياً هذه الأيام، بفعل صمود محور المقاومة والتضحيات الجسام التي يحقق بها إنتصارات، تقلق الأميركي و"الإسرائيلي" وكل من يسير في ركابهما.

لذلك، ليس مستغرباً سماع دعوات التقسيم، فكل شيء في لبنان مقسم طائفياً ومناطقياً، على حساب شكلية الدولة الواحدة. والمافيا السياسية التي تحكم لبنان عبر الرئاسات والوزارات والكتل النيابية، هي نفسها تحكم مناطقها عبر الإدارات المحلية (البلديات). وهي نفسها تمسك وتملك وتدير مافيات المحروقات والكهرباء ومولدات الطاقة و"الأنترنت" و"الساتيلايت". وهي نفسها تمسك إدارات الدولة ووظائفها ومؤسساتها والعاملين فيها. كما أن لكل طائفة في لبنان مدارسها وتعليمها الخاص، من الحضانة حتى التعليم العالي الجامعي. ولكل طائفة طبابتها ومؤسساتها الصحية ومستشفياتها؛ وحتى مستوصفاتها التي يتماهى فيها السياسي بالطائفي. حتى أن البعض بات يلمح إلى أننا على بعد خطوات من تحويل النظام المصرفي إلى مصارف طائفية. من دون أن ننسى أن نظام المحاصصة الطائفي والمناطقي ليس وليد اليوم، بل هو ولد وتطور منذ إعلان المستعمر الفرنسي "دولة لبنان الكبير".

ما الذي يريده التقسيميون أكثر من ذلك؟ فالمحاصصة طالت كل شيء وشملت حتى أصغر التفاصيل. وكل "ديك على مزبلته صياح". لكنها محاكاة للإملاءات الخارجية وغزل معها، ليستمر الدعم المالي. فالتقسيم الكامل ليس لصالح أحد وهو غير ممكن عملياً، لأنه يستدعي حروباً دموية وتطهيراً مناطقياً طائفياً ومذهبياً. ولو كان بامكان جبل لبنان الإكتفاء بذاته، لما بذلت فرنسا جهدها وقوتها لفرض ضم الأقضية الأربعة إليه. فلا الصنوبر صالح ليأكله أهل الجبل ولا الصخور تصلح لصنع الخبز. ولا غنى لجبل لبنان عن خيرات البقاع وعكار والجنوب وعن مرافىء الساحل. وإذا أراد البعض من "إنعزاليي" الجبل العودة إلى لبنان الصغير، أي المتصرفيتين، فمن يضمن ردة فعل الطرف الاخر، فقد تكون عبر صيغة وحدوية معينة مع سورية، أو حرب "تحرير" لإعادة توحيد ما تقسم.


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل