الصراع على الرئاسة ـ عدنان الساحلي

الجمعة 30 كانون الأول , 2022 12:50 توقيت بيروت أقلام الثبات

أقلام الثبات

يحاول البعض الإيحاء بأن الصراع الدائر حول شخص رئيس الجمهورية المقبل، معركة لبنانية خالصة، لإيصال فلان أو علان إلى قصر بعبدا، إستغلالاً منه لعامل العصبويات المتغلغل في نفوس اللبنانيين. في حين أن أسماء الأشخاص هي مجرد تفاصيل، أما الصراع فهو على الولاء السياسي لمن سيجلس على كرسي الرئاسة الأولى، لأنها أحد ثالث ثلاثة تكوّن قوة وحيوية الدولة: السلطة والثروة والسلاح. وهناك من يبذل الجهد والمال لإخفاء تبعية من يمسك مصادر القوة هذه، التي تتمثل بمراكز ومؤسسسات وأشخاص، يتولون إدارتها وتجييرها لخدمة من ينصّبهم في مراكزهم ويحميهم، في بلد مثل لبنان قائم منذ إنشائه على التبعية للحمايات الأجنبية، التي إذا تصارعت فيما بينها دفع اللبنانيون الثمن. وإذا تفاهمت كان ذلك على حسابهم أيضاّ.

ومنذ "الإستقلال" الشكلي الذي تحقق للبنان، عن سلطات الإنتداب الفرنسي، لم يتحرر لبنان من نفوذ تلك الدولة المستعمرة؛ ولم يمنع ذلك "التحرر" بسط نفوذ الولايات المتحدة عليه، فهي ورثت الإستعمار القديم الفرنسي والإنكليزي في منطقتنا، نفوذا ومصالح وقواعد عسكرية. كما ورثت تبعية مواقع النفوذ والتأثير والإدارة في لبنان، الذي أصبح منذ ما بعد أزمة السويس المشهورة، خاضعاّ للسياسات الأميركية، التي ضغطت حينها لضمه إلى حلف بغداد، عبر رجلها ورجل الإنكليز سابقاً في لبنان، كميل شمعون، مما أدى إلى صدام داخلي، أوصل إلى الحكم "إنعزالية" مقنعة أميركية الولاء، هي الشهابية، نتيجة توافق أميركي - عربي كانت مصر طرفه الثاني، فأعطت لمصر من طرف اللسان حلاوة وسلمت البلد ومؤسساته للنفوذ الأميركي.

منذ ذلك الوقت، إنتقل زمام السلطة والثروة والسلاح في لبنان، من الأيدي الفرنسية إلى الأيدي الأميركية: رئاسة الجمهورية كرمز للسلطة والسيادة. وحاكمية مصرف لبنان، رمزاً لسلطة المال. وقيادة الجيش رمزاً لسلطة السلاح. وعندما نقل إتفاق الطائف بعض صلاحيات رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء، جرى تطويب منصب رئاسة الحكومة لمن يدين بالولاء إلى المملكة السعودية، التي تتبع السياسات الأميركية ولا تخرج عن طاعتها. في حين أن موقع الرئاسة الثانية فهو أسير هذه التوازنات، لأنه يخضع لحسابات الأكثرية والأقلية النيابية - الطائفية.

وسجلت الأحداث المتلاحقة، أن المسؤولين اللبنانيين يخافون على مصالحهم الشخصية ويخشون العقوبات الأميركية، خصوصاً ما يطال منها أموالهم وثرواتهم المودعة في الخارج، لذلك لا يتجرأون على إتخاذ موقف يخالف السياسات الأميركية أو يغضب إداراتها المتعاقبة.

وفي ما خصّ سلطة المال، فإن القاصي والداني يعلم أن السلطة المالية في لبنان، ممثلة بحاكمية مصرف لبنان وبجمعية أصحاب المصارف، تتبع بالكامل للنفوذ الأميركي وإملاءاته. ويمكن الرجوع إلى محطات مثل أزمة بنك أنترا، مروراً بوضع ثلث كمية الذهب الذي يملكه لبنان تحت سلطة أميركا، في خزائن البنك الفدرالي الأميركي. ويخشى مصادرتها من قبل السلطات الأميركية، على الرغم من صدور قانون في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي الذي منع فيه مجلس النواب اللبناني التصرف بهذا الذهب، لا بيعاً ولا رهناً.

كذلك نذكّر بالأزمة الإقتصادية التي ضربت لبنان في ثمانينيات القرن الماضي؛ وصولاً إلى تعيين رياض سلامة حاكماً مطلق الصلاحيات على مصرف لبنان، برعاية أميركا وأتباعها، مما يسمح بالقول أن سلطة المال في لبنان هي سلطة أميركية بالكامل، حيث لم يجروء أحد على المسّ بسلامة، رغم أنه "المدير التنفيذي" للمؤامرة الأميركية العاملة على تجفيف لبنان من العملات الصعبة. وهو الذي يديرعملية إفلاس لبنان وسرقة اموال مواطنيه المودعة في المصارف وتهريب قسم منها إلى الخارج.

وتمتد الهيمنة الأميركية إلى سلطة السلاح، بما خصّ دور الجيش اللبناني وتسليحه؛ وكذلك في علاقة الأميركيين بقيادته. ويذكر العسكريون القدامى أنهم كانوا يتعرضون للعقوبات، إذا دب بهم الحماس يوماً وأطلقوا النار رداً على استفزاز العدو "الإسرائيلي". أو تصدوا لطائرة تنتهك سماء مواقعهم. وهكذا جرى العدوان في مثل هذه الأيام على مطار بيروت (28-12-1968)؛ ودمر "الكومندوس الإسرائيلي" بكل هدوء، طائرات ومنشآت على مدارجه، من دون أن يتصدى الجيش أو قوى الأمن لهم. باستثناء رتيب أطلق نيران رشاشه باتجاههم، فجرت معاقبته بدلاً من مكافاته. والأمر نفسه حصل عام 1972، عندما قام "الكومندوس الإسرائيلي" باغتيال ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في وسط بيروت، فوقفت القوى العسكرية اللبنانية متفرجة.

وتشهد السنوات الأخيرة تجاهلاً مقصوداً لذكر التسهيلات العسكرية، التي توفرها السلطات اللبنانية للأميركيين، في القواعد العسكرية الجوية اللبنانية وفي مختلف ثكنات الجيش، التي لا يغيب عنها المستشارون الأميركيون. فيما تحوّل مطار حامات في الشمال إلى قاعدة عسكرية أميركية. في وقت يجري فيه تحويل السفارة الأميركية في عوكر، إلى مدينة عسكرية أميركية تشبه المنطقة الخضراء في بغداد، فهي تتكون من مبانٍ ضخمة تمتد على مساحة واسعة، بنيت بأيد عاملة أميركية. ومنع دخول عمال لبنانيين أو عرباً إليها. وهناك وقائع عن الوجود العسكري والأمني الأميركي في لبنان، تحتاج إلى صفحات لشرح تفاصيله وتفنيد عديده ومهامه. كل ذلك مقابل دعم عيني للجيش لا يتجاوز المائتي مليون دولار سنوياً، من الأسلحة القديمة والآليات المستعملة، التي أحالها الجيش الأميركي إلى التقاعد وأصبحت خردة.

كذلك تبرز الهيمنة الأميركية في منع الجيش اللبناني من الحصول على أسلحة أو دعم من دول أخرى، لا يرضى الأميركي عنها مثل روسيا والصين وإيران. وفي منعه من إستعمال السلاح الأميركي ضد العدو "الإسرائيلي". وحادثة شجرة العديسة ما تزال ماثلة. والأمر نفسه بالنسبة للقضاء، الذي كان محصناً عن النقد أو التداول في أوضاعه. لكن مجريات الأحداث منذ التواطؤ مع شهود الزور بعد إغتيال الرئيس رفيق الحريري؛ وعدم الإعتذار عن ظلم الضباط الأربعة. وصولاً إلى صمت القضاء على تجاوزات المصارف وسرقتها لأموال المودعين. وقطع الطريق على القاضية غادة عون في ملاحقتها لمهربي أموال المصارف والمودعين. وكذلك ما جرى مع القاضي محمد مازح، الذي دفع ثمن محاولته منع السفيرة الأميركية من التدخل في الشؤون اللبنانية. وصولاً إلى تحقيقات قضية إنفجار المرفأ ومحاولات التسييس التي رافقتها. كل ذلك يؤكد ما يقال عن أن القضاء لم يكن يوماً مستقلاً؛ وأن تبعيته للسلطات السياسية التي تعيّن أعضاءه، هي ذاتها تجعله تابعاً للمشيئة الأميركية التي تدير السياسات اللبنانية.

والواقع، أن معظم القوى السياسية في لبنان، تدور بشكل أو بآخر في الفلك الأميركي، أو تخشى غضبه عليها، باستثناء حزب الله المشتبك مع الأميركيين على مستوى لبنان والمنطقة، من ضمن الصراع الدائر بين مشروع الهيمنة الأميركية-"الإسرائيلية"؛ ومشروع التحرر الذي يقوده محور المقاومة. لذلك يدور صراع لأمركة موقع الرئاسة هذه الأيام، بعد ان خرجت الرئاسة عن المألوف، عندما أدى الوجود العسكري السوري في لبنان ووجود المقاومة، إلى إيصال شخصية وطنية تعادي الكيان الذي يحتل فلسطين وتؤمن بدور المقاومة، هو الرئيس العماد إميل لحود. ثم جاءت خيبة أمل العماد ميشال عون من الأميركيين، الذين تواطؤوا ضده في 13 تشرين الأول 1990. وكذلك خيبة أمله من حلفائه في "الثورة البرتقالية"، التي أعقبت إغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، مما دفعه للتحالف مع المقاومة التي يتولاها حزب الله، الذي دعم وصول عون إلى رئاسة الجمهورية. وهذا ما جعل الأميركيين يسعون هذه الأيام ويعملون لإيصال رئيس أميركي الولاء إلى كرسي قصر بعبدا. فهل ينجحون ويصبح لبنان بالفعل جمهورية موز؟


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل