أقلام الثبات
تقول الأمثال العامة أن "مفتاح البطن لقمة ومفتاح الشر كلمة". فكيف ستكون شراهة الجائعين إلى السلطة، إذا كانت تلك اللقمة هي منصب رئاسة جمهورية بلد سائب، تتحكم فيه توازنات الخارج ووصاياته، فيما تتقاتل قواه الداخلية على تنازع الفتات، الذي ترميه لها الأطراف الأقوى خارجياً، بعد تفاهمها على رسم حدود نفوذها ودور الأتباع في حفظ ذلك النفوذ.
هذا حال الحروب الرئاسية اللبنانية كل ست سنوات، حيث يشتد الكباش ليوصل البلاد إلى حدود إفتعال حروب أهلية وفتن، تسعّرها حملات الشيطنة والتخوين المتبادلة. فكل منتم لطائفة رئيس الجمهورية يعتبر نفسه مرشحاً أولى من غيره بالرئاسة. وكلما قررت إحدى الشخصيات تبوء مقعد الرئاسة الأولى في الجمهورية، يعيش لبنان أجواء حرب سياسية شعواء، في مغامرات يدفع شعبه ثمنها غالياً.
لا ينسحب هذا المشهد على الرئاستين الثانية والثالثة، في خارطة المحاصصة اللبنانية الطائفية؛ وإن كان النفوذ الخارجي لا يستثنيهما، فالرئاسة الثانية محكومة بالأكثرية النيابية، فيما الثالثة يقرر فيها مجلس الوزراء مجتمعاً. ولو كان حقاً أن الرئاسة الأولى لم يتبق لديها صلاحيات تستخدمها، إذا أرادت، بعد تعديلات إتفاق الطائف، لما كنا نشهد مثل هذا التصارع على الوصول إلى كرسي قصر بعبدا، بين المتنافسين.
وتكشف مثل هذه الإستحقاقات، عقم النظام القائم وفشله في إيجاد حلول منطقية وجدية لمشاكل اللبنانيين، الذين يدفعهم تصارع مافيات السلطة والفساد والمحاصصات إلى الهجرة، التي جعلت من لبنان أحد أوائل البلدان المصدرة للكفاءات ولجيل الشباب، الذين يخسرهم أهلهم وذووهم وتبتلعهم متاهات البحث عن الأمن والأمان ولقمة العيش، في مختلف أصقاع العالم.
وكلما حان وقت أفول عهد رئاسي وحلول موعد إختيار رئيس جديد، يشهد لبنان بازاراً سياسيا طائفياً، تنفّذ فيه مختلف القوى السياسية والطائفية المشكلة لمجلس النواب، تعليمات الخارج في تمثيلية باهتة، "تنتخب" فيها رئيساً يمثل قوى النفوذ العالمية والإقليمية، أكثر مما يمثل اللبنانيين. ولأن تناتش الصلاحيات والنفوذ والمناصب، هو سمة الطبقة السياسية - الطائفية - المالية، التي تتحكم بمفاصل النظام القائم، الذي انشاه الإنتداب الفرنسي على قياس مصالحه ومصالح النفوذ الغربي؛ وورثه الأميركي من بعده، تتبدل التوازنات بين عهد وآخر؛ وتستجد حسابات لم تكن ملحوظة، مما يضع لبنان واللبنانيين على حافة فتنة مفتعلة، أو حرباً أهلية، لا يتورع رموز الطوائف وزعمائها عن إشعالها، لتحقيق مراميهم وحماية مصالحهم المرتبطة بمصالح الخارج ونفوذه.
جديد هذه الصفحة من سجل الإنتخابات الرئاسية في لبنان، هو خيبة أمل الذين ظنوا أن التفاهم، الذي أوصل الرئيس السابق ميشال عون إلى سدة الرئاسة، هو إتفاق مبادىء دائم، لحماية الوطن وتحويل البلد- المزرعة إلى دولة حقيقية، تعنى بمواطنيها وتحمي حاضرهم ومستقبلهم. لكن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر. وها هي البيانات المتبادلة تعلن أن تفاهم مار مخايل يمر بمرحلة دقيقة، أبرز ما فيها أن طرفي التفاهم يتصرفان وكأن كل منهما إستنفذ غايته منه. فالطرف الذي أراد من التفاهم توسيع الغطاء الطائفي والوطني لقوته، قام بما عليه في المرحلة السابقة؛ ولا يجد انه مضطر لدفع ثمن دائم ومكلف وبمفعول رجعي لحليفه، في حين يعلم الجميع أن ما يحكى عن حماية السلاح، هو شبه نكتة، فالسلاح أولا وأخيراً هو الذي يحمي نفسه؛ ولديه من الجمهور والقوة ما يغنيه عن قبول إبتزاز من يبتزه لغايات شخصية ومصلحية. كما أن التضامن مع الشريك في الوطن، الذي يدافع ويضحي نيابة عن الجميع، ليس مشرفاً تحويله إلى إستثمار وسبب للمطالبة بثمن مقابل.
أما الطرف الآخر في التفاهم، فقد خسر معركته كحاكم وسلطة، عندما فتح بازار تفاهماته مع كل من هب ودب، فاسقط شعاراته عن الإصلاح؛ وحول زخم خطابه الوطني الجامع، الذي جعله "تسونامي" في يوم ما، إلى موجة من السعار الطائفي والعنصري، جعلت الناس تترحم على دعات التقسيم والفدرلة والإنعزال. حتى بتنا نسمع من يمنن الآخرين، مرة لأنه يقف مع من يقاوم العدو "الإسرائيلي" ويريد ثمناً لذلك؛ ومرة أخرى يقول أن لا مشكلة له مع هذا العدو، الطامع في أرض لبنان ومياهه وثرواته.
والأخطر في صراع التنافس للوصول إلى قصر بعبدا، أن البعض يعمل كل ما في وسعه، ليقول أنه هو الطرف المسيحي الأقوى والناطق باسم المسيحيين، فيما المطلوب رئيساً لكل اللبنانيين، يخرجهم من دائرة النزاعات الطائفية التي يفتعلها تجار السياسة وزعماء الطوائف، كلما أحسوا أن الأمور تخرج من أيديهم. وهذا الأمر يكشف إحدى أسوأ سمات النظام القائم؛ وهي أن من يسعى ليكون واجهة البلد، يقدم نفسه أولاً للخارج باعتباره ناطقاً باسم عصبية يستغلها، فيصبح حاكماً باسم النفوذ الخارجي بالفعل، فيما هو شكلاً يحكم باسم اللبنانيين، الذين يتوقون للوصول إلى مرحلة يتوقف فيها موسم الإنتخابات الرئاسية، عن أن يكون سوق بيع وشراء، بل مناسبة يقول فيها اللبنانيون كلمتهم. وهذا يدعو البعض للمطالبة بانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب، لكن من يضمن أن لا تبقى التدخلات الخارجية ذاتها، التي لم تغب عن الإنتخابات النيابية، حيث يلعب عامل المال الخارجي والتأثير الإعلامي الممول دوراً أساسياً في تظهير النتائج وفي فوز هذا وخسارة ذاك.
حروب المسترئسين - عدنان الساحلي
الجمعة 09 كانون الأول , 2022 01:25 توقيت بيروت
أقلام الثبات
مقالات وأخبار مرتبطة