أقلام الثبات
لم تكن الأهواء ثم الأحزاب والتيارات العقائدية العروبية والقومية، مجرد حالةٍ عابرةٍ في لبنان والمنطقة، خصوصًا لدى الشارع السني، بل تعود جذورها أي (الأحزاب العربية) إلى أواخر القرن التاسع عشر، يوم واجهت شعوب المنطقة، تحديدًا المشرق، سياسة التتريك التي سعت تركيا إلى تعميمها لدى هذه الشعوب في حينه. وأدى الرهبان الموارنة دورًا رياديًا في الحفاظ على اللغة العربية، من خلال تدريسها في الأديرة والمقامات الدينية، والحفاظ على المطبوعات والمخطوطات. وبرز في ذلك الوقت وفي بداية القرن الفائت أبرز أدباء اللغة العربية والشعراء العرب، وجلّهم كان من الموارنة، ومنهم جبران خليل جبران، مخائيل نعيمة، مارون عبود، الأخطل الصغير، وسواهم. ومع هزيمة الدولة العثمانية واندحارها من لبنان في العام 1918، ودخول قوات الانتداب الفرنسي إلى لبنان، وتقسيم المنطقة، وإعلان دولة لبنان الكبير في العام 1920، كان جلّ أهل السنة يميلون إلى الوحدة مع سورية.
إلى ذلك، شهدت المنطقة منذ ثلاثينيات القرن الفائت، نهضةً قوميةً عربيةً، ونهضةً سوريةً قوميةً اجتماعيةً، مع تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي، ثم حزب البعث العربي الاشتراكي في الأربعينيات، وكان لهذين الحزبين حضور كبير في لبنان والمنطقة. ثم جاء انتصار ثورة الضباط الأحرار في مصر بقيادة جمال عبد الناصر في تموز 1952، التي ألهبت بدورها المشاعر القومية لدى غالبية الشعوب العربية. بعدها انتصرت ثورة الثامن من آذار التي قادها حزب البعث في سورية في العام 1963، وتسلم مقاليد الحكم فيها، ولايزال حتى الساعة. كذلك نجح البعث في الوصول إلى الحكم في العراق في تموز 1968 واستمر في السلطة حتى العام 2003، تاريخ دخول الاحتلال الأميركي إلى العراق.
إذًا، للأحزاب العقائدية تاريخ حافل في هذه المنطقة، فهي متجذرة، ولم يتعمم فكرها واتّساع رقعة انتشارها، نتيجة ردود أفعالٍ عاطفيةٍ، كما هو حال التيارات الطائفية، التي ترتكز إلى إرساء الخطب المذهبية التحريضية في استقطاب أتباعها. وطفت هذه الحالات الشاذة إلى السطح في لبنان وسورية والعراق، إثر اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ثم "اتهام" دمشق والمقاومة اللبنانية في الضلوع في هذه الجريمة. وغداة بدء الحرب الكونية على الجارة الأقرب في العام 2011، ومحاولة تمزيق النسيج الاجتماعي الوطني السوري. وقبل ذلك الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، ثم تأسيس هذا الاحتلال للتنظيمات التكفيرية المسلحة، بإقرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، خلال حملته الانتخابية في العام 2016، متهمًا سلفه باراك أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، بتأسيس تنظيم داعش الإرهابي.
لاريب أن دور الأحزاب العقائدية، ضمر في لبنان، إثر الأحداث المذكورة آنفًا، وموجة التحريض المذهبي التي رافقت هذه الأحداث، بالإضافة إلى تعرض أعضائها للقتل والتنكيل والترهيب، كالمجزرة التي اقترفها مناصرو تيار المستقبل والتكفيريون في حق شباب الحزب السوري القومي الاجتماعي في حلبا- عكار في أيار 2008، وتحطيم مقر حزب البعث في طرابلس، ومكتب نائب عكار السابق المناضل البعثي عبد الرحمن عبد الرحمن في طرابلس في التاريخ عينه. كذلك تحطيم مكتب التيار الوطني الحر في محلة الميناء.
أما في المرحلة الراهنة، تغيرت الأوضاع بعد تبدد أوهام المراهنين على سقوط الدولة في الجارة الأقرب، وسقوط مراهناتهم الفاشلة، ذلك بعد نجاح محور المقاومة التي تشكل سورية حاضنته الرئيسية، ويشكل الجيش السوري عموده الفقري، في تطويق الإرهاب في أراضي بلاده، ومساعدة لبنان على مكافحة الإرهاب، والتخلص من الإرهابيين، بدءًا من دعم الجيش اللبناني في عملية اجتثاث الإرهاب من مخيم نهر البادر في العام 2007، بإقرار من "الشهيد الحي في ثورة الأرز" إلياس المر، وزير الدفاع الوطني اللبناني في حينه.
وها هي اليوم، تعيد غالبية الدول الشريكة في الحرب الكونية على سورية العلاقات معها، سواء إن كان فوق الطاولة أو تحتها، ومنهم من يسعى إلى إعادة العلاقة مع دمشق، كما هو تركيا، بإقرار من الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان نفسه في الآونة الأخيرة. ووفقًا لمعلومات موثوقة كشفها الدبلوماسيون الروس. أما في لبنان، فلاتزال الجهات الرسمية "تدرس الوضع"، قبل تفعيل العلاقة مع دمشق. رغم ذلك لاتزال سورية تقدم كل التسهيلات لمساعدة لبنان في المجال الاقتصادي، خصوصًا لجهة تسهيل عبور الشاحنات اللبنانية عبر الحدود، واستعداد الجهات المعنية السورية لاستقبال النازحين السوريين العائدين من لبنان، بحسب تأكيد الوزراء اللبنانيين المعنيين، رمزي المشرفية وعصام شرف الدين، والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، لتخفيف الأعباء الاقتصادية عن لبنان. كذلك أكّد الرئيس السوري بشار الأسد أن لبنان، هو خاصرة سورية الأساسية، والاستقرار فيه مهم جدًا لها.
وترافق مع هذه التطورات والموافق المذكورة، حراك كبير للبعث في لبنان، الذي نظم ما بين شهري تشرين الأول وتشرين الثاني الفائتين سبعة عشر فعاليةً، ما بين مهرجانات احتفالية حزبية، وافتتاح مكاتب للحزب على امتداد الجغرافيا اللبنانية، من عكار مرورًا في طرابلس، ثم بيروت، وجبل لبنان، ثم عرسال، والجنوب، فهل يؤشر ذلك إلى استعداد دمشق لتعزيز دورها في لبنان؟ فمعلوم أن الدور هذا يشكل رافدًا أساسيًا لدعم حلفائها اللبنانيين، لما لسورية من تأثير في الشارع اللبناني، كونها تشكل رئة لبنان الاقتصادية، ومعبره البري الوحيد نحو العالم، ولما لها من علاقات وروابط تاريخية مع الشعب اللبناني.