أقلام الثبات
إعتادت البطريركية المارونية على التصريح والتصرف، بأنها صانعة الكيان اللبناني ومؤسسة نظامه السياسي والإقتصادي. وبأنها أهم ركن في الدولة العميقة، التي تدير النظام وترعى الكيان وتوجه رموزهما؛ وتحميهم عند اللزوم، فيما هي تحتمي وتستقوي بالقوى الدولية والأقليمية، التي ترتبط بها وتنسج معها علاقات ما فوق السيادية والوطنية، مثل علاقاتها التاريخية بـ"أمها الحنون" فرنسا. وكان أركان الدولة فيما مضى ياخذون رغباتها كاوامر. ويعتمدون سياساتها دستوراً لهم. ومن يخالف تلك الرغبات- الأوامر يطاله غضب الخارج والداخل، الخارج ممثلاً بالسفراء والقناصل؛ والداخل ممثلاً بـ"الجيش الأسود" المؤلف من حشد الرهبان ورجال الدين من الرجال والنساء، القادرين في عظاتهم على تجييش رعيتهم ضد هذا المتمرد، أو ذاك الخارج عن طوع رأس الكنيسة وقائدها.
لكن مع مرور الزمن؛ ومع فشل القوامين على الكيان اللبناني وصانعي نظامه، في تطويره سياسياً واقتصادياً ليماشي العصر وتغييراته، عاش لبنان محطات من التصارع والتصادم، فرضت وقائع موضوعية، تحولت معها الأرجحية الإستقلالية المسيحية، إلى مناصفة طائفية مع المسلمين. وتحول الإستفراد الرئاسي الماروني إلى مشاركة مع الحكومة ورئيسها. وأصبحت الوقائع على الأرض أقوى من الطموحات والأحلام، بل أقوى من النظريات والدساتير المكتوبة. فأصبح مشهد البطريركية قلقاً ومواقفها مرتبكة، فإذا بها تدعو للأمر ونقيضه. وتطالب بالشيء وعكسه، خصوصاً في دعوتها إلى حياد لبنان، بما يناقض شعاراتها عن السيادة، التي تنتهكها بمطالبتها "المجتمع الدولي" تولي رسم سياسات لبنان وتقرير مصيره. وأن "يشرف" على تعيين رئيس لجمهوريته، عبر المؤتمر الدولي الذي تدعو إليه.
سار البطريرك بشارة الراعي على خطى أسلافه. ولم يسال نفسه كيف يتوافق تمسكه، بنظام طائفي يوزع انصاب الحكم ومغانمه محاصصة بين الطوائف وزعمائها، حسب حجم كل طرف وقوته ومدى الرعاية الخارجية المتوفرة له، فيما نراه يطالب اليوم، برئيس يتخطى التوافق ليكون "صاحب موقف صلب من القضايا الأساسية؛ وصاحب خيارات سيادية لا يساوم عليها أمام الأقوياء والمستقوين؛ ولا أمام الضعفاء والمستضعفين، لا في الداخل ولا في الخارج". فهل هكذا واقع متنوع ومتصارع على المغانم، يمكن أن ينتج رئيساً "يظل فوق الانتماءات الفئوية والحزبية؛ وهي تلتف حوله وتؤيده ويكون مرجعيتها وتطمئن إلى رعايته"، حسب طلب الراعي، فمن أين نأتي بمثل هذا الرئيس؛ وهل تقبل به الجهات المفترض انه يمثلها؟
يتابع البطريرك "ليس الرئيس التوافقي رئيساً ضعيفاً يدير الأزمة، يداوي الداء بالداء؛ ويداري العاملين ضد مصلحة لبنان، ولا رئيساً يبتعد عن فتح الملفات الشائكة التي هي السبب الأساس للواقع الشاذ السائد في كل البلاد. ولا رئيسَ تحدٍ يفرضه فريقه على الآخرين، تحت ستار التفاوض والحوار والتسويات والمساومات، أو يأتون ببديل يتبع سياسة الأصيل نفسها. فيتلاعبون به كخف الريشة، ويسيطرون على صلاحياته ومواقفه، ويخرجونه عن ثوابت لبنان التاريخية، ويدفعونه إلى رمي لبنان في لهيب المحاور".
ويتابع: "الرئيس الذي نريده هو الذي يتحدى كل من يتحدى اللبنانيين ولبنان. والذي يقضي على المساعي الخفية والظاهرة إلى تغيير هوية لبنان الوطنية والتاريخية. مهما كان شكل لبنان الجديد مركزياً أو لا مركزياً، فلن نسمح بالقضاء على خصوصيته وهويته وعلى تعدديته، وعلى كل ما يمثل في هذا الشرق من وطن شكل ملاذاً وطنياً آمناً للمسيحيين، كما لسواهم، كي يعيشوا بإخاء ورضا ومساواة وشراكة فيما بينهم، في دولة ديمقراطية حضارية".
إذا من الواضح أن البطريرك يريد رئيساً قوياً يفرض خياراته على اللبنانيين؛ ويفرض عليهم "الثوابت التاريخية"، من دون أن يشرح للبنانيين ما هي تلك الثوابت، التي تعلو فوق خياراتهم ولا يعلى عليها. فهل يقصد بالرئيس القوي إعادة لبنان إلى زمن كان رئيس الجمهورية فيه ديكتاتوراً، لا يقيم وزناً للآخرين بمن فيهم الحكومة ورئيسها والمجلس النيابي، حيث كانت إرادته هي الأساس في الحكم. ولأن هذا الواقع تغير ولأن رغبات البطريركية لم تعد مقبولة من معظم اللبنانيين، إنطلق البطريرك ليطالب "بعقد مؤتمر دولي خاص بلبنان يعيد تجديد ضمان الوجود اللبناني المستقل؛ والكيان والنظام الديمقراطي؛ وسيطرة الدولة وحدها على أراضيها استناداً إلى دستورها أولاً، ثم إلى مجموع القرارات الدولية الصادرة بشأن لبنان".
هكذا وبكل بساطة، يريد البطريرك إعادة لبنان مائة عام إلى الوراء، إلى تلك السنة التي أعلن فيها جنرالات المستعمر الفرنسي "دولة لبنان الكبير". ولأن فرنسا لم تعد في الوضع الذي يتيح لها ذلك، يلجأ البطريرك إلى الولايات المتحدة، لأنها تقود المجتمع الدولي، فيرى أن "الأمم المتحدة معنية مع كل دولة تعتبر نفسها صديقة للبنان، أن تتحرك لعقد هذا المؤتمر. ولقد رأينا أن هذه الدول حين تريد تحقيق شيء تحققه فوراً، مهما كانت العقبات؛ ولنا في سرعة الوصول إلى اتفاق لبناني / "إسرائيلي برعاية أميركية، حول ترسيم الحدود البحرية والطاقة، خير دليل على قدرة هذه الدول إذا حسمت أمرها".
هكذا يريد البطريرك الراعي تجيير إنتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية إلى المجتمع الدولي، لأن القرار أفلت من يده. ولأنه يريد إعادة "ضبط اللبنانيين"، تحت "ثوابته" التاريخية. مسقطاً بذلك كل خطابات السيادة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، بعيداً عن تدخلات قوى الخارج. ويتجاهل أن هناك بعض اللوبييات في الولايات المتحدة الأميركية، تسعى إلى تدويل الأزمة اللبنانية، من أجل تمرير مشروعات تسعى إليها، تحت عنوان "المناطق الآمنة"؛ وهي شكل من أشكال تقسيم لبنان.
ويغيب عن بال البطريرك، أن فشل المجلس النيابي في التوصل إلى حلول للأزمات، بما فيها إنتخاب رئيس للجمهورية، إنما هو عقم في النظام القائم، يتم علاجه بحوار بين اللبنانيين، لتطويره نحو دولة المواطنة غير الطائفية، لأن دولة المحاصصة الطائفية، هي التي تنتج الفساد وتحمي الفاسدين. وليس الحل باستقدام إنتداب جديد أو وصاية جديدة على لبنان. علماً أن هذا "المجتمع الدولي" هو الذي أحرق لبنان بمشروع هنري كيسينغر، ليغطي مرحلة سياسية إقليمية خدمت الكيان "الإسرائيلي"، قام خلالها أتباع ذلك المجتمع الدولي، من الحكام العرب، بالإعتراف بـ"إسرائيل" وتطبيع علاقاتهم معها، في "كمب ديفيد" و"أوسلو" و"وادي عربة" وغيرها.
وتبلغ خطابات البطريرك الراعي قمة التناقض، في دعوته للحياد ولـ"عدم دخول لبنان قطعاً في أحلاف ومحاور وصراعات سياسيَّة، وحروب إقليميَّة ودوليَّة. وامتناع أيّ دولةٍ عن التدخُّل في شؤونه أو اجتياحه أو احتلاله أو استخدام أراضيه لأغراض عسكريَّة". فهل حقاً أن لبنان محايد وان البطريركية ذاتها على الحياد؟ وهل إشراف الدبابات "ألإسرائيلية" على إنتخاب بشير الجميل عام 1982 كان حياداً؟ وهل ينكر البطريرك أن لبنان بات محمية أميركية، تقيم فيه الجيوش الأميركية قاعدة عسكرية لها في مطار حامات، على مدى النظر من البطريركية، بين مقريها الشتوي والصيفي. وهل وجود الخبراء الأميركيين في معظم ثكنات الجيش اللبناني ومطاراته العسكرية، هو تعبير عن هذا الحياد؟ وهل خضوع لبنان للأوامر الأميركية بمنع التعامل الرسمي مع روسيا والصين وإيران، إقتصادياً ونفطياً، هو الحياد الذي يقصده البطريرك؟ وهل منع تسليح الجيش اللبناني بغير السلاح الأميركي والغربي، هو هذا الحياد المقصود؟ أم أن إعتبار الكيان "الإسرائيلي" جاراً على حطام الشعب الفلسطيني وحقوقه، هو الحياد المنشود. أم أن الإنحياز إلى أي نظام عربي يتبع أميركا والغرب؛ ومعاداة كل دولة عربية تمارس سياسة إستقلالية تجاه أميركا والغرب، هو الحياد؟ هذا السير بين نقيضين في تضارب مواقف البطريرك الراعي، يبدو انه يحتاج إلى مؤتمر وطني يعيده إلى نبض الداخل؛ وليس مؤتمراً دولياً ينفذ إرادات الخارج.