أقلام الثبات
منذ الاستقلال في العام 1943، ولبنان واللبنانيون يعيشون الأزمات، التي تتناسل وتتكاثر وتتجمع، وفي كل مرة تنفجر لتطال شظاياها وشراراتها وكوارثها الناس ، رغم أن بيان الحكومة الاستقلالية الأولى وضع الأصبع على الجرح اللبناني النازف دائماً، حيث أعلن البيان أن الحكومة "ستبادر لإصلاح الدستور اللبناني بحيث يصبح ملائماً لمعنى الاستقلال الصحيح وإلغاء المواد التي لا يتفق وجودها وقيام الاستقلال، ومنها ما يجعل لغير اللبنانيين مشاورة في تسيير شؤونه".
هل تغير شيء؟
لاحظوا جيداً: "ومنها ما يجعل لغير اللبنانيين مشاورة في تسيير شؤونه".
ثمة حقيقة، يجب الاعتراف بها رغم مرارتها أنه منذ الاستقلال ونحن على فوهة البركان، وندار بالحبال، أو بخيوط الحرير.
اتفاق الطائف ، الذي انتج ما يسمى " وثيقة الوفاق الوطني " ، بقي جامدا ، وصار عند البعض منزلا ، رغم انه كرس نوعا من الوصاية على البلد وأهله ، وكل مادة في هذا الاتفاق حسب رأي العلامة الدستوري النائب والوزير السابق الدكتور حسن خالد الرفاعي ،وهو النائب الوحيد الذي لم يوقع على اتفاق الطائف ، لأنه كان يرى أن كل مادة فيه تحمل تناقضات كثيرة، وهو الوحيد الذي كان صريحا في قوله إنه مع الطائف في الشق الذي يوقف الاقتتال والتخريب وينقذ الأبرياء ويؤدي إلى إحياء المؤسسات، لكنه اعترض على أن النواب لم يعطوا الوقت الكافي لدراسة الاتفاق ومناقشته بندا بندا، معتبرا أن طريقة التصويت عليه كانت جريمة ديمقراطية لا تغتفر. كما اعتبر أن تطبيقه كما هو مصيبة، وأن عدم تطبيقه كارثة، ونحن الآن في الكارثة.
لقد عارض العلامة الدستوري د. حسن خالد الرفاعي اتفاق الطائف لأسباب دستورية وديمقراطية ووطنية. ومع ذلك كان يدعو إلى وجوب الالتزام به، وتطبيقه تطبيقاً دقيقاً إلى أن يحين وقت تعديله. مشيرا في حديث للجمهورية في 18 تشرين الأول 2014 أن "اتفاق الطائف لم ينجح منذ ولادته، فالنصوص سيئة والتطبيق أسوأ مما هو عليه، وهذا ما دفعنا إلى ما نحن فيه اليوم"، مشيراً الى ان "في نصوص اتفاق الطائف إيجابية واحدة وهي المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، ولهذا السبب يجب تعديله وتطويره، ولكن بعد تخطي المرحلة الراهنة إذ إن المطلوب هو الهدوء والسلام"، مضيفاً "ليس من المحبّذ تعديل الاتفاق في المرحلة الراهنة بسبب الوضع السياسي من جهة والاقتصادي من جهة أخرى".
ومن الممارسة العملية في مرحلة ما بعد الطائف ، يتبين ان هذا الاتفاق كرس وجود البلد تحت وصاية دائمة ، ويتضح ذلك ، في قضية تشكيل الحكومات ، إذ أن الحكومات الست التي ابصرت النور في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي (1989 - 1998)، استغرق تشكيلها 48 يوما فقط ، بينما استغرق تشكيل ست حكومات في عهد الرئيس إميل لحود ( 1998 _ 2007 ) 41 يوما فقط منهم 20 يوماً استغرقتها حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الأولى وحدها.، أي ان 12 حكومة شكلت في عهد ما يسمى " الوصاية السورية " استغرق 89 يوما فقط .
وبعد الانسحاب السوري من لبنان ، استغرق تشكيل اربع حكومات 635 يوما أي نحو ثلث عهد الرئيس ميشال سليمان ، بينما استغرق تشكيل اربع حكومات في عهد الرئيس ميشال عون ومعها تكليف واعتذار عن التشكيل لكل من الرئيس سعد الحريري والسفير مصطفى أديب نحو نصف ولاية العهد .
الى ذلك شهد لبنان ، بعد الانسحاب السوري من لبنان شغورا رئاسيا ، فكان الشغور بعد نهاية عهد الرئيس لحود في 23 تشرين الثاني 2007 من دون أن يتمكن مجلس النواب من انتخاب رئيس جديد، الذي انتهى الأحد في 25 أيار 2008 بانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان الذي انتهى عهده في 24 أيار 2014 بفراغ رئاسي استمر حتى 31 تشرين الأول 2016، بانتخاب العماد ميشال عون. الذي تنتهي ولايته في 31 تشرين الأول الجاري ، علما انه يغادر اليوم الأحد في 30 تشرين الأول قصر بعبدا الى دارته في الرابية .
على مدى 33 عاما من عمر مسيرة الطائف الذي دخل قبل أيام قليلة عامه الـ34 سمع اللبنانيون حديث السياسيين المستمر عن الطائف وضرورة تطبيق اصلاحاته، لكن أي تدبير عملي لم يتخذ، ولعل أبرزها ما شددت عليه مقدمة الدستور:
«ز- الإنماء المتوازن للمناطق ثقافیاً واجتماعیاً واقتصادیاً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام.
ح- إلغاء الطائفیة السیاسیة هدف وطني أساسي یقتضي العمل على تحقیقه وفق خطة مرحلیة».
إضافة الى ما نصت عليه مواد دستورية بشأن الإصلاح السياسي، والوظائف العامة والتمثيل الطائفي، حيث جاء في المادة 95 من الدستور: «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية, تضم بالإضافة الى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.
مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها الى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية. وفي المرحلة الانتقالية:
أ- تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.
ب- تلغى قاعدة التمثيل الطائفي ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة وفقا لمقتضيات الوفاق الوطني باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين دون تخصيص أية وظيفة لأية طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة».
ومن الإصلاحات التي أقرّها اتفاق الطائف وأكد عليها الدستور في المادة 22 استحداث مجلس للشيوخ حيث جاء فيها: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية " . ولا شك ان هذا المجلس اذا رأى النور سيكون موضوع خلاف كبير حول طائفة رئيسه ، وتحديد القضايا المصيرية . وفي لبنان يمكن ان تصير قضية تعيين مأموري احراش قضية مصيرية .
بعد 30 عاما من انتخاب أول مجلس نيابي (أي في عام 1992) على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، أين أصبح مصير «اتخاذ الاجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية» بحيث ان أحدا من المسؤولين لم يأتِ على ذكر هذه الهيئة والوحيد الذي تناولها، كان الرئيس الراحل إلياس الهراوي الذي طلب تشكيلها بُعيد منتصف تسعينيات القرن الماضي، لكنها لم ترَ النور.
وإذا كان إلغاء مطلب الطائفية السياسية مطلب وطني أكد عليه بيان الحكومة الاستقلالية الأولى عام 1943 واعتبر ساعة يقظة وطنية، فان هذا الهم يبقى حبرا على ورق ليس إلا.
بشكل عام يغادر الرئيس العماد ميشال عون قصر بعبدا في ظل شغور رئاسي يؤشر بوضوح الى عمق أزمة النظام وبؤس الياته الديموقراطية التي لا تنتج قادة وسياسيين على مستوى من المسؤولية الوطنية الكبرى . لدرجة ان المرشد وليد البخاري يستطيع أن يجمع باشارة منه كل " أصحاب شعارات السيادة والاستقلال " في مضاربه التي ينصبها في موقف سيارات منزله . وبهذا تصوروا لو أن السفير السوري أو السفير الإيراني في بيروت ، يتحدث او يأمر ببعض تحف ونصائح البخاري أو دوروثي شيا .