السلطان سليم أفسد العهد الاستقلالي الأول
وعهد "البحبوحة" الثاني تميز بالهدر و"القوادة" عفاف وطلب السلاح من إسرائيل والجاسوسة شولا كوهين
أقلام الثبات
على مدى تاريخ لبنان الاستقلالي منذ العام 1943، لم يرتح اللبنانيون من الأزمات التي تتناسل وتتكاثر وتتجمع، لتنفجر في كل مرة وتصيب الناس بشظاياها وكوارثها، يضاف إلى ذلك فضائح الفساد ونهب المال العام بأشكال مختلفة، ففي العهد الاستقلالي الأول (1943 – 1952)، ذاع صيت شقيق رئيس الجمهورية، الذي لقب بـ"السلطان سليم"، بسبب ما كان يملكه من سلطة، وهو كان له اليد الطولى في انتخابات 25 أيار 1947 التي ذاع صيتها بالتزوير، وإثر ثورة بيضاء استقال الرئيس الاستقلالي الأول، في منتصف ولايته الثانية في شهر أيلول 1952، وخلفه كميل شمعون، الذي رغم الطفرة المالية التي حصلت في عهده وما يسمى البحبوحة، جراء تدفق المال الفلسطيني بعد اغتصاب فلسطين 1948، وتدفق مال الأثرياء العرب في سورية ومصر بعد التأميم الذي حصل في البلدين، والمال الخليجي بحكم الطفرة النطفية إلا أن الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في عهده، أسس لكل المصائب التي يعاني منها لبنان.
ففي عام 1956 ضرب صباح يوم 16 آذار زلزال مدمر بقوة 5.6 درجات على مقياس ريختر، فأصاب بشكل أساسي: الشوف وجزين وصيدا وبعض مناطق البقاع، فأدى إلى مقتل 140 مواطناً وجرح 500 آخرين، و30 ألف مشرد، إضافة إلى تدمير كبير في المباني وتجهيزات البنى التحتية ولاسيما الطرقات، ويومها فضحت كارثة الزلزال "هشاشة الدولة وعجزها في إدارة أي أزمة، وإلى اليوم وعند كل أزمة تصادفنا: حرائق، فيضانات، أزمة نفايات، تتصرف الدولة وكأنها مصدومة مما جرى، تتقاعس في تأدية واجبها تجاه الناس وتتجاهل أسباب تقصيرها".
ويومها أثيرت الكثير من الفضائح والشكاوى في عملية إعادة البناء والأعمار ودور العهد فيها، فكانت فضائح متعددة منها: التلاعب في جداول العمال من قبل الملتزمين المدعومين، اختفاء مبالغ من الدعم والتبرعات، تخصيص مخاتير بكميات كبرى من مواد البناء من قبل مهندسي التعمير لقاء هدايا وحفلات تكريم، وسجلت العديد من الشكاوى إزاء تصرف المهندسين الذين تعاملوا مع الناس بشكل فظ وديكتاتوري.
وفي العهد الاستقلالي الثاني، الذي لم يكتف بنسف أسس الميثاق الوطني، برفض الدخول إلى الأحلاف الاستعمارية، فكان أن أعلن انحيازه إلى حلف بغداد عام 1954، ومشروع إيزنهاور عام 1956 وغيرهما "بل أن كثيراً من الفضائح ظهرت، منها" فضيحة عفاف" وهي فلسطينية اسمها "بدور" وعرفت باسم عفاف واكتسبت الجنسية اللبنانية بعد زواجها من لبناني، وقد اشتهرت "عفاف" بتقديم الخدمات الجنسية من خلال إدارتها بيتاً للدعارة تحت "حماية النيابة العامة وشرطة الآداب"، في زمن ما أطلق عليه "الرخاء والرفاهية" ومن خلال الأكراميات التي كانت توزعها "القوادة" عفاف في كل الاتجاهات.
استفادت عفاف من مزايا الأمن والحرية والديمقراطية والسرية المصرفية في الخمسينيات لتستأجر فندقاً في محلة رأس بيروت أطلقت عليه إسم blair، فسكنت في الطبقة الأولى منه مع صديقها سعيد، الموظف في قصر العدل في بيروت، وحوّلت الطوابق الأخرى الى غرفٍ ناهز عددها ال ٦٥ لإستقبال الزبائن الأغنياء والمسؤولين والميسورين من لبنانيين وعرب.
فتيات عفاف كن من جنسيات مختلفة عملن تحت إدارتها، طوعاً أو بالإكراه، بقي "ماخور الدعارة" عصياً على الإقفال حتى بعد اعتراض سكان المنطقة على نشاط البيت المشبوه وتقديمهم عريضة لختمه بالشمع الأحمر، فكانت النتيجة، بعد تدخل عفاف مع أصدقائها النافذين في العهد الشمعوني أن حُفظت الشكوى بحجة أن ما تقوم به مع فتياتها يدخل ضمن تصنيف "تشجيع السياحة والإصطياف".
الصحافة اللبنانية بدورها في تلك الفترة لعبت دوراً مناهضاً لعمل عفاف في تشجيع الرذيلة والفحشاء وتعاطي المخدرات والكوكايين، لكن نفوذ القوادة الطاغي مع أصحاب المناصب الرفيعة في البلد عرقل في كثير من الأحيان عمل الصحافيين الذين لجأ عدد منهم، إما الى الهرب أو الكتابة تحت اسم مستعار، كما أن محاولاتها المتكررة بتقديم رشى لعدد منهم بهدف وقف حملتهم الإعلامية عليها لم تجدِ نفعاً في أحيان كثيرة.
فضائح عفاف استخدمت كوثيقة ضد حكومة الرئيس سامي الصلح في عهد الرئيس كميل شمعون والتي وصفها كمال جنبلاط بعبارته الشهيرة "الحكومة كلها عفاف".
والعهد الشمعوني، إذا كان لم يتورع عن طلب السلاح من إسرائيل عام 1958، فكان أن أرسل له يتسحاق رابين الذي كان قائداً للمنطقة الشمالية في الجيش "الإسرائيلي" 500 بندقية، حتى شارل مالك لم ينتخب رئيساً للجمعية العامة للأمم المتحدة رغم ميوله الأميركية الواضحة، إلا بعد توصية من ويلبور كراين إيفلاند إلى جون فوستر دالاس وأخيه آلان دالاس، كما كانت لشارل مالك علاقة وثيقة بمندوب "إسرائيل" في الأمم المتحدة أبا إبيان الذي عمل وزيراً لخارجية الكيان فيما بعد.
وفي هذا العهد عرفت شولاميت كوهين، الجاسوسة اليهودية الشهيرة، التي حملت أكثر من لقب. فمنهم من سمّاها "ماتا هاري الإسرائيلية"، بينما اعتبرتها المخابرات "لؤلؤة الموساد". وهناك من اختصرها إلى "شولا". أما اسمها الحركي فكان "يولين". فاستطاعت الشابة السمراء ذات العينين الزرقاوين اصطياد كبار المسؤولين اللبنانيين؟
وهناك حقيقتان لا جدال فيهما: الأولى هي أن سيرة شولا من بين أكثر قصص مجتمع المخابرات إثارة في العقود الأولى من إنشاء إسرائيل. والثانية هي أنها لم تكن جاسوسة بالمعنى الشائع للكلمة، فلم تكتف بجمع المعلومات ونقلها إلى "إسرائيل"، بل نظمت وساعدت في تهريب اليهود من الدول العربية، ولبنان بالذات، إلى "إسرائيل" عن طريق البحر والبر، حتى من قبل إعلانها دولة. وقد استمر نشاطها حتى عام 1961.
في عام 1947 قامت بإيصال رسالة مع بائع لبناني متجول إلى العصابات الصهيونية تقول فيها:" أنا اسمي شولا، يهودية أعيش في بيروت وأود المساعدة، وقد سمعت من بعض الأصدقاء أن لبنان سيرسل مقاتلين إلى فلسطين". وجاءها الرد أن تستمر بإرسال المعلومات برسائل مشفرة وتتلقى الجواب عبر الإذاعة العبرية. فعندما تسمع أغنية معينة لعبد الحليم حافظ فهذا يعني أنهم استلموا رسالتها. كما صارت تزودهم بمعلومات عن الثوار والسلاح وعن السكان على الحدود بين فلسطين ولبنان.
كان على الجاسوسة الإسرائيلية أن تنتقل إلى مرحلة أكثر تقدماً. فتعرفت على فرنسي يهودي فزودها بحبر سري وآليات جديدة للتواصل معهم.
في عام 1949، بعد تأسيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد"، تحولت شولا للعمل معه مباشرة، وطلبوا منها المساعدة في تهجير اليهود اللبنانيين والسوريين إلى إسرائيل، وبدأت تبني علاقات قوية مع المجتمع المخملي اللبناني، وراحت تستدرج السياسيين إلى بيتها لتحصل على المعلومات مستخدمة أقدم مهنة في التاريخ. وكانت شقتها تعج بعاهرات صغيرات للقيام بالمهمة.
بدأت بالبحث عن شخص يعمل في دائرة رسمية لمساعدتها، ووجدت ضالتها في موظف يدعى محمود عوض يعمل في وزارة المالية. أغرته وسقط في شباك غوايتها وسهلت له العلاقة مع البنات اللواتي يعملن معها، مقابل أن يستدرج رجال السياسة.
وصار لشولا، أواسط خمسينات القرن الماضي، خمس شقق مستأجرة في بيروت، مزودة بكاميرات دقيقة. وصارت تستقبل زبائنها وتقوم بتصويرهم لابتزازهم. وعملت معها فتاة أرمنية فائقة الجمال تدعى لوسي كوبليان، في الرابعة عشرة من عمرها، كانت نقطة الجذب الرئيسة في الشبكة التي توسعت وزاد نشاطها ليشمل أيضاً تهجير يهود العراق، وتهريب الأموال إلى إسرائيل عن طريق إعلان افلاس شركاتهم، وأخذ القروض من البنوك والهرب بها.
بعد أن انتخب الرئيس فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية في عام 1958 وأصبح الرئيس الشهيد رشيد كرامي رئيساً للحكومة. وزير المالية اللبناني طلب، التحقيق لمعرفة كيفية اختفاء الطوابع المالية من وزارته. وجرت مراقبة الموظف محمود عوض والتحقيق معه إلى أن بدأت الخيوط تتكشف، وأخيراً فضحت الجاسوسة كوهين.
وفي التفاصيل أن شولا تعرفت على معلم يدعى سمعان، واتفقت معه أن يعطي أطفالها دروساً خصوصية. وكان زوجها قد تقدم في العمر واحتل المعلم قلبها ومنحته كل عواطفها. ولم يكن سمعان سوى ضابط مخابرات لبناني يدعى ميلاد القارح، كشفها وأخبر رؤساءه بتفاصيل شبكتها وتم إلقاء القبض عليها خلال سهرة حميمة.
حُكم على شولاميت كوهين بالإعدام عام 1961. وتم تخفيف الحكم إلى المؤبد نتيجة لضغوط دولية. وبعد حرب حزيران/ يونيو 1967 تمت مبادلتها بأسرى عرب فعادت إلى إسرائيل واستقبلت بحفاوة وواصلت حياتها هناك.
وهي توفيت منذ فترة قصيرة، كما احتفل الصهاينة في العام 2020 بالذكرى المئوية لولادتها.
يتبع