أقلام الثبات
تسود الفوضى كل ما له علاقة بالدولة في لبنان، هذه الأيام، حكماً وحكومة وشعباً، فسمة هذه المرحلة هي تضارب وجهات النظر في كل القضايا، لأن اللبنانيين مقسومون ومفتتون والاستحقاقات التي يواجهونها مفصلية. وكيف لا يكونون على هذه الحالة من الإهتراء، طالما أن الأهواء والمصالح الشخصية والفئوية تتغلب لديهم على المصالح العامة.
لم يكن ينقص لبنان واللبنانيين هذه الأيام إلاّ تواطؤ، أو لنقل غفلة الدبلوماسية اللبنانية، وفي الحالتين فشلها في منع تمرير تعديل قرار مجلس الأمن الدولي، القاضي بالتجديد السنوي لقوات الطوارئ الدولية "اليونيفيل"، العاملة في منطقة جنوب نهر الليطاني. فتعديل دور "الطوارئ" بالاستغناء عن التنسيق مع الجيش اللبناني؛ واستفرادها بتنفيذ عمليات تفتيش ومداهمات في الجنوب، يعني أن هناك إشكالات يومية، أو حتى اشتباكات، بينها وبين الأهالي، فالمقاومة في لبنان بما فيه جنوب الليطاني، ليست جيشاً غريباً ولا جسماً غريباً حتى يسهل على "الطوارئ" كشف تحركاتها ومواقعها، بل هي باختصار أهالي الجنوب وسكان قراه ومدنه. وتعديل دور القوات الدولية يعني أنها ستتحرك من دون أي ضوابط، بما يجعلها قوة استكشاف وتجسس تعمل لصالح العدو "الإسرائيلي"، طالما أن الأمم المتحدة والدول المشاركة في تلك القوات، تعمل وفق المشيئة الأميركية وإملاءاتها في الالتزام بالمصلحة "الإسرائيلية" في المنطقة قبل كل شيء آخر.
هذه الفوضى والارتباك، هما أيضاً سمة موقف الدولة بكل رموزها، تجاه عملية ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة. فبينما يطرح العدو "الإسرائيلي" أقصى مطالبه وأطماعه ويناور، بهدف انتزاع أكبر مساحة ممكنة من مياهنا البحرية السيادية، نجد أن رموز الدولة يحجمون عن المطالبة بما هو حق للبنان؛ أي بالخط البحري 29، الذي أكد خبراء الجيش اللبناني أنه حدود لبنان البحرية الجنوبية وليس الخط 23. والتنازل عن الخط 29 هو تفريط، بل وخيانة وطنية لا يجب السكوت عنها.
وتصبح الفوضى مهزلة وفضيحة، عندما يتعلق الأمر بتشكيل حكومة جديدة، تخلف حكومة الرئيس نجيب ميقاتي المستقيلة. فصراع المصالح وتناتش الصلاحيات، الذي يتستر خلف حقوق الطوائف ورغبات ممثليها في الحكم، يكاد يدخل لبنان في فراغ حكومي ورئاسي معاً، فحكومة تصريف الأعمال الحالية، لم تمثل أمام مجلس النواب الجديد ولم تنل ثقته، لكن الدستور يعطيها حق تولي صلاحيات رئيس الجمهورية، في حال شغور منصب الرئاسة. في حين أن حكومة من التكنوقراط يترأسها سياسي من طائفة غير طائفة رئيس الجمهورية، تعني في لبنان، أن رئيس الحكومة استفرد بالسلطة؛ وأنه وطائفته استوليا على صلاحيات طائفة أخرى. في وقت لم يبادر مجلس النواب المنتخب حديثاً، لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، رغم دخوله في المهلة القانونية المحددة له، لانتخاب رئيس يخلف الرئيس ميشال عون الذي تنتهي فترة رئاسته في 31 تشرين المقبل. كل ذلك وسط إنقسام وطني عام وصراع مرير داخل طائفة الرئيس المزمع انتخابه، فكل من فيها يحلم بالوصول إلى هذا المنصب ويسعى إليه.
حتى الأمور البديهية المطلوبة من حكومة تصريف الأعمال، هي قضايا مختلف حولها، يجري تأجيل البت بها بحجج واهية. فخطة المعافاة الاقتصادية التي يفترض بالحكومة إرسالها إلى مجلس النواب، لم تعلن تفاصيلها بعد ولا يعلم المواطنون عنها شيئاً، مما اتاح للهيئات الاقتصادية أن تطرح خطتها الفئوية للمعافاة، لأن من الطبيعي أن يطرح كل طرف معني الخطة التي تناسبه. وما يناسب تلك الهيئات لا يناسب بالطبع جمعية المصارف؛ وما تسعى إليه تلك الجهتان سيتناقض حكماً مع رؤى النقابات العمالية والمهنية ومصالح منتسبيها. وهذا التناقض وصراع المصالح هو الذي يمنع ويعطل سن قانون "الكابيتال كونترول"، المتعلق بتنظيم السحوبات المالية من المصارف، وصولاً إلى هيكلة المصارف المتعثرة التي عمدت، خلافاً للقانون، إلى مصادرة أموال المودعين ومنعهم من استعادتها أو حتى الاستفادة منها، إلا بالقطارة، على الرغم من أن "الكابيتال كونترول" وغيره مما يصنف إصلاحات، اشترط صندوق النقد الدولي إقرارها ليقرض لبنان ثلاثة مليارات دولار، "لا تغنيه ولا تسد جوعه"، لأنها لا تحل ولو جزءاً بسيطاً من أزمته، بل أن تلك الحلول المقترحة ستزيد من معاناة اللبنانيين، لأنها ستأتي على حساب الفقراء والمستضعفين، في حين أن الزعماء وأصحاب النفوذ وكبار المتولين هربوا أموالهم إلى الخارج.
هي أزمة نظام كامل، فشل في رعاية شؤون اللبنانيين وفي إيجاد حلول لمشاكلهم، كما فشل في توحيد رؤاهم وتطلعاتهم، بل أن رموزه أفسدوا واستغلوا شعبهم وسرقوا أمواله. وكان متنفس هذا النظام دائماً، دفع اللبنانيين للهجرة والترسمل على ما يرسلونه لذويهم من أموال، أو التسول من الدول التي تسعى لنشر نفوذها وحماية مصالحها في لبنان. وفي الحالتين: الهجرة والتسول أو تحصيل الثروات بطرق غير مشروعة كالتهريب أو احتكار التجارة، تسقط سمة الدولة عن الكيان برمته، ليصبح "مغارة علي بابا". فهل ينقذ أصحاب القرار الكيان بتغيير النظام، أم يضحون بالكيان حفاظاً على فساد النظام وعقمه.