أقلام الثبات
يتكرر مشهد تناغم بعض الداخل اللبناني مع التهديدات والتحديات الخارجية، بل واستدعائه ذلك الخارج للتدخل في الشأن الداخلي، كلما فشل منطق التبعية و"قوة لبنان في ضعفه"، في فرض رأيه ومنطقه على اللبنانيين، خصوصاً في ظل ظروف متقلبة بين التفاؤل والتشاؤم تجاه ما يواجه لبنان من مشكلات.
آخر محطات هذا التناغم، خصوصاً مع موقف العدو "الإسرائيلي"، هو الصمت المطبق لأصحاب الأصوات العالية في غير مناسبات، عن المطامع والتهديدات "الإسرائيلية" للبنان، لفرض تراجعه عن حقوقه في الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة. ولولا موقف المقاومة وإعلانها الوقوف خلف الدولة، لكان التراجع اللبناني الرسمي تخطى التنازل عن خط الحدود البحرية 29، الذي أكد خبراء الجيش اللبناني أنه حدود لبنان وليس الخط التراجعي 23، لأن إعتماد الأخير هو تفريط بحقوق وحدود لبنان يوازي الخيانة الوطنية.
وتشهد محطات عديدة من تاريخ المائة عام، التي تفصلنا عن مرحلة إعلان لبنان الكبير، ثم الإستقلال عن الإنتداب الفرنسي، أن بعض الجهات المكونة للطرف الذي يمننا كل صباح ومساء، بأنه أنشأ هذا الكيان وجعله وطناً، مصرّة على الإستقواء بالخارج الغربي البعيد، لفرض موقفها وخياراتها، لأنها عجزت عن فرضها بقوتها الذاتية، في كل المراحل السابقة المنظورة.
هل نتذكر صفحات تاريخ فرض نظام المتصرفية، بقوة الدول الأوروبية الكبرى الست: بريطانيا، فرنسا، بروسيا، روسيا، النمسا وإيطاليا. حيث جرى فصل جبل لبنان عن بلاد الشام.
أم هل نذكّر بأن لبنان الكبير بحد ذاته، كان إعلاناّ إستعمارياً فرنسياً لم يكن السبق فيه لقادة اللبنانيين. ولا ينسى اللبنانيون إستدعاء أحد رؤوساء الجمهورية قوات "المارينز" الأميركية، لتحمي محاولته التجديد لرئاسته؛ وفي الوقت نفسه لتحمي قراره الإلتحاق ب"حلف بغداد" الساقط، الشبيه بحلف "الناتو العربي"، الذي فشل الرئيس الأميركي جو بايدن في تسويقه مؤخراً. والذي تجري حرب التجويع والتركيع الأميركية على لبنان حالياً، لإجبار اللبنانيين على القبول بما يماثله، لجهة التطبيع مع العدو "الإسرائيلي".
الآن وفي زحمة الكباش بين لبنان والعدو "الإسرائيلي"، حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة؛ وكذلك وسط بحث اللبنانيين عن حلول لأزمتهم المالية-الإقتصادية المأساوية، كما في بحثهم عن الحقيقة في الإنفجار الكارثي الذي حدث منذ عامين في مرفأ بيروت، تخرج أصوات نشاز تطالب بالتقسيم وتنادي بالفدرالية، بعدما سقطت خياراتها في هذه القضايا، مثلما فشلت الدعوات للحياد في الصراع مع العدو "الإسرائيلي".
هذه الدعوات التي يراد منها إبتزاز اللبنانيين، في مواقف واستحقاقات عديدة ضاغطة، تضعف الموقف اللبناني الذي يتفاوض مع المبعوث الأميركي ("الإسرائيلي" في الوقت نفسه) عاموش هوكشتاين، حول حقوق لبنان في مياهه الإقليمية. وتريد القول للبنانيين بأن خيارها هو الخضوع للأطماع "الإسرائيلية" ورفض المواجهة معه، ليس فقط لأن قوى الفدرلة والتقسيم متحالفة بالسر والعلن مع هذا العدو، بل رفضاً منها لمنطق وجود مقاومة، تواجه هذا العدو وتفرض عليه وقف اطماعه والإعتراف بحقوق لبنان وحدوده.
تلك الأصوات التقسيمية، التي تشهد عليها الدعوات عبر وسائل التواصل الإجتماعي، تظن انها تقلب الطاولة على شريكها في الوطن، بإعلانها رفض العيش المشترك؛ وبقولها بالفم الملآن "لم نعد نريد العيش معهم"؛ و"حريتنا أهم من العيش المشترك". وغير ذلك من أقوال تناقض كل ما أدعته تلك الأصوات خلال العقود والعهود السابقة، في تغنيها بالوطن وشعبه. لكنها في الحقيقة تريد القول للبنانيين بأنها ترفض لبنان القوي، بعدما إعتادت على الإستعانة بالخارج بما فيه العدو "الإسرائيلي"، لفرض خياراتها السياسية والإجتماعية. هكذا لبت تلك القوى إرادة الخارج لتزوير التحقيق وتدويله في جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري. وهكذا تفعل بعض قوى الداخل لإستدعاء الخارج والإستقواء به لتسييس التحقيق في إنفجار المرفأ. وكذلك تفعل لكسر أي قرار وطني لبناني يرفض القبول بالإملاءات الأميركية، التي تريد إجبار لبنان على الخضوع للأطماع "الإسرائيلية". وكذلك هي تنفذ الإرادة الأميركية والغربية في منع لبنان بقبول اي مساعدة من الدول الشرقية، كالصين وروسيا وإيران وغيرها.
بل أكثر من ذلك، تريد الأصوات التقسيمية، أن تفرض على اللبنانيين أن لا يوصفوا العملاء الذين دخلوا في سلطة العدو "الإسرائيلي" وتجندوا في جيشه، بأنهم عملاء، علماً أن هؤلاء بحملهم سلاح العدو حصولهم على جنسيته، لم يعودوا يستحقون حمل الجنسية الوطنية التي يجب نزعها منهم.
هكذا وفي مثل هذا المناخ، الذي تسكت فيه وقاحة الأطماع "الإسرائيلية" أبواقها اللبنانية عن قول كلمة الحق. وفي الوقت الذي يعاني فيه اللبنانيون من جريمة تلاقي فساد زعماء الطوائف واصحاب المصارف، مع العقوبات الأميركية، تخرج أصوات منكرة تقول انها "بصدد رفع مذكّرة للمجلس الأعلى لحقوق الإنسان، من أجل تشكيل لجنة تقصي حقائق دولية" في قضية المرفأ، في استدعاء للخارج تحت مسمى "لجان دولية"، للوصول إلى الإستهداف السياسي الذي يتاجر بدماء الضحايا وآلام المصابين، تنفيذا لإرادة الأميركي و"الإسرائيلي" في تشكيل المشهد السياسي اللبناني وفق هواه. فأي خيانة أكثر وأفظع من هذه الخيانة. وأي تواطؤ مكشوف مع العدو أوضح من هذا التواطؤ، كل ذلك لأن بعض الجهات التي صنعها الخارج وتعتاش على التبعية له، لا تتوافق مصالحها مع وجود لبنان قوي يحمي حدوده ومصالحه؛ ويرمم إقتصاده الذي انهار بفعل سياسات حكام التبعية والفساد والمحاصصات الطائفية.