أقلام الثبات
يرتاب اللبنانيون من أسلوب الدولة، حكماً وحكومة، في تعاطيها مع مشكلة حساسة وبالغة الأهمية، مثل قضية ترسيم حدود لبنان البحرية مع فلسطين المحتلة. ويشككون بمدى جديتها في حفظ حقوق لبنان في الثروة النفطية والغازية الموجودة في مياهنا الأقليمية، التي ينازعنا عليها كيان العدو "الإسرائيلي"، بأطماعه التي إبتلعت فلسطين وجزءاً من أراضي سورية ولبنان. ويسعى، إذا ساعده الخنوع اللبناني والعربي، لتكون حدوده، كما تقول عقيدته الصهيونية، من الفرات إلى النيل.
وتشي السجالات الدائرة حول هذه القضية، بمدى خسارة المسؤولين لثقة اللبنانيين بهم، فهم أوصلوهم إلى أسفل درك إجتماعي ومالي، أتاح للضغوط الأميركية أن تصبح عقوبات، تواطأ الفاعلون معها، فجرى تجفيف البلد من العملات الصعبة وصادرت المصارف أموال المودعين؛ وتراجعت قيمة الليرة عشرات الأضعاف أمام الدولار الأميركي. وأنهارت قيمة رواتب ومداخيل اللبنانيين وقدرتهم الشرائية، إلى درجة غير مسبوقة.
حتى الآن لم يشرح أي مسؤول معني، سبب هذا الإرتباك الظاهر الحاصل في موقف الدولة من الخطوط البحرية، التي على أساسها سترسم حدودنا البحرية الجنوبية. وعلى أساسها سيحدد حجم ما سيحصل عليه لبنان من هذه الثروة، التي هي حق له وهو في أمس الحاجة إليها، لحل مشاكله المالية والإقتصادية الضاغطة، التي إفتعل القسم الأكبر منها ليكون وسيلة ضغط على اللبنانيين، لإرغامهم على القبول بالتنازلات السيادية والسياسية، التي تعمل على فرضها عليهم الولايات المتحدة الأميركية والكيان المحتل لفلسطين؛ وبعض الدول العربية المتورطة في مشاريع "السلام" الأميركية المقررة للمنطقة، لتكريس وجود الكيان الصهيوني وجعله قائداً لمجموعة الدول العربية السائرة في الفلك الأميركي-"الإسرائيلي"؛ وإضاعة حقوق شعب فلسطين؛ وفرض توطين اللاجئين منهم في لبنان على أرضه.
كذلك لم يتكلف أي مسؤول في شرح واقناع اللبنانيين، بأن مصلحة لبنان تقضي بالتنازل المسبق عن حق له أثبته الجيش اللبناني، هو الخط 29 ليكون الحد الأدنى للتفاوض، بما يكفل مواجهة الأطماع "الإسرائيلية" ومنعها من التهام ما يتيحه لها رفض بعض اللبنانيين لفكرة مواجهة أطماع العدو بالقوة، على الرغم من المزايدات الفارغة لمن لم يجف حبر تصريحاتهم المعادية لسلاح المقاومة، فيما الواقع يؤكد أن المقاومة وسلاحها، هي عنصر القوة الأساسي الذي يملكه لبنان في مواجهة أطماع العدو واعتداءاته اليومية، نظراً لإستنزاف قوى الجيش في مهمات هي لقوى الأمن الداخلي، تكلفه بها السلطات وتبدأ بضبط الشوارع ونشر الحواجز وحماية المؤسسات العامة؛ ولا تنته عند ملاحقة المطلوبين والمجرمين والمهربين وتجار المخدرات. علماً أن الجيش محروم من السلاح الفاعل بأمر أميركي، حيث تحصر مصادر تسلحه بأنواع "الخردة" القديمة، التي يحصل عليها من الأميركيين. ويمنع من إستعمال تلك الأسلحة ضد العدو "الإسرائيلي"؛ وحادثة العديسة ما تزال ماثلة أمام الأعين، حيث حقق الأميركييون بنوع السلاح الذي أصاب جنود العدو، عندما دخلوا الأرض اللبنانية وقطعوا أشجارا منها.
وما يدعو للشك في ما يفعله المعنيون، هو تراكم أسئلة لا تجد أجوبة عندهم واعتمادهم مواقف غير مفهومة، تبدأ بقبولهم وسيطاً أميركياً لحل الخلاف مع العدو، هو "الإسرائيلي" عاموس هوكشتاين، الذي خدم في جيش العدو ويحمل جنسيته. وهذا رضوخ منهم لعملية إذلال أميركية تمارس بحق لبنان. كذلك هو تواطؤ منهم لأنه تراجع خطوة إلى الخلف، أمام موقف العدو وأمام الإملاءات الأميركية وتشجيع لها.
والأدهى، أن هناك من يروج لخدعة تضيع فيها حقوق لبنان، هي القول بمقايضة حقل "كاريش" المتنازع عليه مع العدو، بحقل "قانا" الذي لم تحدد معالمه ولا قيمة وحجم مخزوناته، فيخرج لبنان من هذه المقاولة خالي الوفاض، فيما حقه الثابت المنطلق من النقطة 29 يضيع وربما يهدد بإضاعة مساحات في البر، لأن ترسيم البحر ينطلق من نقطة الحدود البرية؛ وأي تغيير هنا يؤثر على المنطلقات هناك.
هذه الخدعة التي تضيع حق لبنان في النقطة 29، تروج لما يشبه إتفاق 17 أيار بحري. فعندما وقعت سلطة الرئيس أمين الجميل ذلك الإتفاق الخياني، روجت بأنه لصالح لبنان ويخدم مطالبه، فيما هو كان مجرد إملاءات فرضها الموفد الأميركي فيليب حبيب والعدو "الإسرائيلي" المحتل في ذلك الوقت.
ولا ينسى اللبنانيون الاعيب السياسيين الذين "ليس لهم خلاف أيديولوجي مع إسرائيل"، أو يعتبرونها "جاراً" للبنان وسبق ان تعاملوا معها وحملوا سلاحها وأعانوها ضد إخوانهم في الوطن، فهم يتصرفون بالعقلية ذاتها، التي صورت للبنانيين أن هدنة 1948 حققت للبنان مطالبه، فيما الواقع أن حكام ذاك الزمن تنازلوا عن 13 قرية لبنانية، البعض يقول أنها القرى السبع، لكن الراحل ريمون إدة عندما ذكّر المعنيين بقرية النخيلة المحتلة، قال أن لبنان يسكت عن إحتلال الكيان الصهيوني لثلاث عشرة قرية لبنانية. ورغم ذلك يرفض أدعياء السيادة أي مطالبة بها. كما يرفضون الحفاظ على سلاح المقاومة باعتباره عنصر ردع لأطماع العدو واعتداءاته.
هو الخوف من إغضاب الأميركي يدفع لمثل هذه المواقف. فالأميركي لا يعترف في منطقتنا إلا بمصالح ثكنته العسكرية المتقدمة "الكيان الإسرائيلي". وهذا العامل يدفع بعض من يدعي حرية الرأي إلى قمع كل من يدلي برأيه في قضية ترسيم الحدود البحرية، على طريقة أتركوا السياسة لأهلها، التي مارسها نظام أنور السادات لتمرير إتفاقية كمب ديفيد الخيانية، التي أخرجت مصر من دورها العربي الريادي. وكذلك لتمرير أنظمة أخرى إتفاقيات مماثلة، مثل وادي عربة و"اوسلو" وغيرها، من أتفاقيات الذل العربي أمام الغزوة الصهيونية، حيث تفتعل الأزمات الإجتماعية والإقتصادية وغيرها، فيغرق المواطن في همومه، بينما يمرر المسؤول صفقته المشينة بأقل قدر من المعارضة. فهل سيكون مصير حقوق لبنان في ثروة الغاز والنفط مثل مصير القرى ال13 المنسية، أم تكون نهايتها كنهاية إتفاق 17 أيار، الذي أسقطه حلفاء سورية في لبنان بدعم مباشر منها.