أقلام الثبات
تبدو حلول الأزمة اللبنانية بعيدة عن متناول أيدي المتنطحين لقيادة "خطة التعافي الوطنية"، خصوصاً عندما نرى أن الطاقم السياسي الحاكم يضع كل بيضه في سلة صندوق النقد الدولي، مواصلاً سياسة التسول والشحادة ومراكمة الديون على الخزينة التي أفلسها فسادهم، فيما هم أعجز من أن يلبوا المطلوب منهم من قبل "المجتمع الدولي"، أي أميركا ومن يدور في فلكها. وكذلك هم عاجزون عن تلبية شروط الدول الخليجية التي أوصلها لهم وزير خارجية الكويت، فلا رهانات الإنقلاب الإنتخابي نجحت؛ ولا تدخلات السفيرة الأميركية دوروثي شيا والسفير السعودي وليد البخاري غيرت في توازنات القوى السياسية، على الرغم من تمثيلية التغيير والتغييريين، التي تبينت هشاشتها وضحالة أدواتها. أما حرب الإخضاع والتجويع القائمة، فلم تؤد إلا إلى فضح أدوات الفساد المحمية من الخارج. فيما وسائل الضغط الأخرى مستبعدة لأن ما عجزت عنه "إسرائيل" بكل الأسلحة الأميركية المدججة بها، لن يحصل عليه صندوق دولي مقابل ثلاثة مليارات دولار، مقسطة على أربع سنوات، لن تسمن ولن تخرج لبنان من أزمته. كذلك لن تتحقق شروط حكام خليجيين باعوا أنفسهم للشيطان والتحقوا بصف العدو "الإسرائيلي"، مطبعين علاقاتهم معه ومتخلين عن قضية العرب الأولى فلسطين وحقوق شعبها.
بات اللبنانيون يعرفون شروط صندوق النقد، الجاري الحديث عنها منذ بداية الأزمة، لكن الجديد فيها أن هناك من يلمح إلى أن أحدها يقضي باقفال الحدود اللبنانية مع سورية، بحجة أن أموال الصندوق التي ستقرض إلى لبنان ستهرب اليها. ويتجاهل متداولوا هذا الشرط، أن اموال المساعدات الغربية والدولية للنازحين السوريين، التي تبقيهم في لبنان، هي التي تدخل إلى سورية، بعد أن يزيد متلقوها من عبء الأزمة على لبنان واللبنانيين. وحلها يكون بعودة هؤلاء إلى كنف دولتهم.
في المحصلة، إن شروط صندوق النقد، خصوصاً تلك التي يريدها في السياسة، تبين أن الثمن المطلوب من لبنان أكبر بكثير من مبلغ القرض المعروض، مما يجعل الحديث عن الإتفاق مع الصندوق مجرد تقطيع وقت وضحك على ذقون اللبنانيين، فالشروط سياسية قبل أن تكون مالية واقتصادية. وهي شروط ظهرت في مقالة كتبها مؤخراً السفير الاميركي السابق جيفري فيلتمان وفيها: إن "أيّ دعم من الشركاء الخارجيين للحكومة يجب أن يكون وفق شروط سياسية واقتصادية". وهذا يكشف أن صندوق النقد صعّد، أو سوف يصعد من شروطه، لأن الأميركي هو صاحب القرار فيه. والحكومة غير قادرة حتى لو كانت راغبة، على تلبية تلك الشروط.
كانت تلك الشروط تناسب رهانات أصحابها، التي سبقت إجراء الإنتخابات النيابية. وتبين أنها رهانات فاشلة. كانوا يراهنون على الحصول على أكثرية برلمانية واجراء انقلاب سياسي، يعقبه تشكيل حكومة تستبعد منها "حزب الله"، بحجة عدم إغضاب المانحين الدوليين والخليجيين. فأي شرط هذا ومن سينفذه لهم بعد فشلهم الذريع، رغم كل جولات وتدخلات السفيرة الأميركية والسفير السعودي؛ ورغم الأموال الطائلة التي وزعوها في كل المناطق، لصالح اللوائح التي دعموها علنا وساهموا في تشكيلها وفي ازالة العقبات من أمامها. وتسرع البخاري، كما تسرع تابعه سمير جعجع، باعلان الفوز فيها وتحقيق أكثرية، فاذا بأحصنة تلك الأكثرية المزعومة، ممن يسمون "تغييريين"، مجرد أولاد في السياسة والقوانين، تعرضوا لسخرية اللبنانيين في أول يوم دخلوا فيه مجلس النواب، بما حملوه معهم من جهل وشخصانية وادعاءات فارغة وخلافات، منعهتم من تشكيل كتلة نيابية ولو فسيفسائية.
هذا الفشل الأميركي والسعودي، سيزيد من حقدهما على لبنان واللبنانيين، الذين يعرفون أن حكام البلدين المذكورين هم الذين ينشرون الفساد ويحمون الفاسدين في لبنان، من جهة؛ ويصنعون أدواة يسمونها "تغييريين" من جهة أخرى. فلا هم نجحوا بصنع تغييريين ذوات قيمة. ولا أمكن لهم إخراج الفاسدين من فضيحة كشفهم أمام أعين اللبنانيين، باعتبارهم لصوصا سرقوا أموال الشعب اللبناني ونهبوا خزينة الدولة وهربوا ما لم يصرفوه إلى الخارج؛ وحموا مهربي الأموال من سياسيين ومتمولين وأصحاب مصارف.
ما نراه على صعيد الترويج للإستدانة من صندوق النقد الدولي، هو محاولة عقيمة لحصاد ما جنته أيدي الفاسدين في لبنان، مصحوبة بنتائج العقوبات الأميركية وحصارها المفروض على لبنان. وما يجري هو لتعمية أعين اللبنانيين عن إستكمال مخطط إخضاعهم؛ ومن ثم إستتباعهم للدول التي عملت، عبر أزلامها في الحكومات اللبنانية المتتابعة، على دفع لبنان إلى حفرة الديون ومضاعفة الهدر والسرقات، لإفقار شعبه والإستيلاء على أمواله، التي وضع زعماء الطوائف بالتعاون مع أصحاب المصارف، أيديهم عليها؛ وهربوا ما لم يصرفوه منها إلى الخارج، لوضع اللبنانيين أمام خيارين: أما الجوع والمذلة وأما الخضوع للإملاءات الأميركية –"الإسرائيلية" - السعودية، التي باتت معروفة ويحفظها اللبنانيون عن ظهر قلب. وآخر حلقات هذا المسلسل، تكون بوضع اليد على الذهب وعلى أملاك الدولة والتصرف بهم، لإقفال كل الأبواب أمام اللبنانيين بما يجبرهم على الخضوع والقبول بالإملاءات الأميركية، التي حملها المبعوثون الأميركيون مثل صاحب "خط هوف" البحري وديفيد شنكر؛ ومقترحات الصهيوني عاموس هوكشتاين وغيرها. كل ذلك لجر لبنان إلى تلبية المطامع "الإسرائيلية" من جهة؛ والإنضواء في سياسة "السلام والتطبيع" مع هذا العدو، التي تنفذها المملكة السعودية ومن تدفعه ليتقدمها في هذ الدرب، من إمارات ومشيخات نفطية ودول ملكية. وكذلك حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين، بتوطين الأولين ودمج الآخرين، في بلد تدفع سياسات حكامه شعبه إلى الهجرة والبحث عن وطن ياويه، لأن مصالح هؤلاء الحكام ومن يرعاهم في الخارج، تريد إبقاءه مزرعة لقطعان طائفية تصطف خلف رعاتها ومستغليها الذين يتاجرون فيها وقت الهدوء ويدعون حمايتها عند الأزمات.
إن إختيار البقاء أسرى سياسة الإستدانة، تعني بوضوح، أننا في مقايضة نتوجه فيها للقبول بمطالب أميركا و"إسرائيل"، في حين أن التوجه نحو خيارات معاكسة في السياسة والإقتصاد، تعني أننا قررنا الدفاع عن حقوقنا في أرضنا وثروتنا ونتمسك بالحق العربي الفلسطيني في العودة وتقرير المصير.
والخيار الأول يعني أننا نعارض التوجهات لإقامة نظام اقتصادي عالمي جديد، بقيادة الصين وروسيا، طالما أن حكام لبنان يمارسون تبعية مطلقة للسياسات الأميركية ويخضعون صاغرين لعقوباتها. وكذلك، أننا نرفض إقامة ما يسميه البعض "اقتصاداً مقاوماً"، طالما أن العجز مستمر عن فرض خيار التوجه شرقاً، للحصول على ما يناسب لبنان من عروض تنمية وإعمار صينية وروسية وإيرانية وغيرها، توازن وتحفّز العلاقات الإقتصادية بين لبنان والغرب ولا تلغيها.
هي أزمة طالت وحلولها متعثرة والإشتباك سيستمر بين الشعب والحكومات إلى ما شاء الله، خصوصاً أن نتائج الإنتخابات النيابية الأخيرة، أعطت عذرا لجميع الجهات السياسية اللبنانية للتحجج بأن مجلس النواب الحالي هو مجموعة أقليات سياسية، مما يعفي لك القوى من واجب البحث عن بدائل لتبعيتها لصندوق النقد والدول الغربية؛ كما يعفيها من هم الإتجاه إلى دول الشرق لدراسة وقبول ما هو مفيد من عروضها.