مقالات مختارة
غريبٌ ومرعبٌ هوس الشعب الأمريكي بالأسلحة. لا يمرُّ يومٌ إلاّ ونسمع بحوادث إطلاق نار وقتلى وجرحى، في الجامعات والمدارس، في المصانع والمتاجر، في أماكن العبادة، في المترو، في ثكنات الجيش الأمريكي، وكأنّها منافسةً لنيل جائزة وطنيّة أو أوسكار العنف.
الحقائق أوّلاً. تُصَدّر الولايات المتحدة للعالم ما يزيد قيمته عن الـ 175 مليار دولار من السلاح، حسب إحصائيات سنة 2020 وحدها، أي ما نسبته 38% من تجارة السلاح في العالم. في الداخل الأمريكي، يتعدى حجم التجارة بالأسلحة وذخيرتها الـ 70 مليار دولار في السنة. إذاً نحن نتكلّم عن إقتصاد السلاح الذي يدرّ حوالي 250 مليار دولار سنويّاً ويوفّر عشرات الآلاف من الوظائف. ويقدّر عدد المدنيّين الأمريكيّين الذين يملكون السلاح بـ72 مليون مدني، لديهم 360 مليون قطعة سلاح، أي ما معدّله خمس قطع للشخص الواحد. بالمقابل، في العقد الممتد من 2000 إلى 2009، كان المعدّل أربع قطع للشخص. بمعنى آخر، زاد اقتناء الأمريكيّين للسلاح في العقد المنصرم، وتجاوز عدده عدد سكان أمريكا (332 مليون نسمة). في سنة 2021 وحدها، اشترى الأمريكيّون حوالي 20 مليون قطعة سلاح. الشعب الأمريكي يملك 42% من قطع الأسلحة بيد المدنيّين في العالم، مع العلم أنّ نسبة سكّان أمريكا من سكّان العالم هي 4%. تأثير هذا العدد الهائل من السلاح بيد الأمريكيّين يتبدى من خلال إصابة 329 شخصاً يومياً بطلق ناري، يموت منهم 123، أي أكثر من 45 ألف قتيل سنويّاً بما يسمّى “عنف الأسلحة الناريّة” (Gun violence)، منهم حوالي 24000 حالة إنتحار و14400 حالة قتل متعمّد (بينهم 611 من رجال الشرطة يقتلون على يد مدنيّين). للإيضاح، هذه الأرقام تشمل فقط استخدام المدنيّين السلاح ضدّ أنفسهم، عائلاتهم، أصدقائهم، زملائهم، جيرانهم، ولا يدخل من ضمنها عدد الذين يُقْتَلون على يدّ أجهزة الشرطة (حوالي 1000 شخص سنوياً) أو بوسائل أخرى. وهذا بحدّ ذاته أمر مرعب خصوصاً إذا نظرنا إلى عدد الأطفال والمراهقين الذين يُقتلون نتيجة حوادث إطلاق النار. ففي آخر إحصائيّات سنة 2020 (نُشرت في مجلّة نيو إنغلاند للطبّ)، تبيّن أن الموت بطلق ناري طال أكثر من 4300 مواطن أمريكي تحت سنّ الـ 19، وبذلك أصبح الموت بالسلاح في المرتبة الأولى لقتل الأطفال والمراهقين، مقارنةً بحوالي 3900 يموتون سنويّاً بحوادث السير (المرتبة الثانية)، بينما عدد الأطفال والمراهقين الذين يموتون بسبب السرطان هو حوالي 1800 سنويّاً.
بعد كل حادثة إطلاق نار، تشتعل الشاشات وشبكات التواصل بالآراء والتحليلات لاختصاصيّين في علم النفس والأمن أو لتربويّين وسياسيّين وناشطين، منهم من يشجب ويطالب بمنع بيع السلاح أو وضع قيود على اقتنائه لأنّ توفّره بهذه السهولة يشجّع على استخدامه، ومنهم من يرفض ذلك قائلاً إنّ السلاح لا يقتل بل من يقتل هو من يستخدم السلاح! كيف لنا أن نفسّر هذا الهوس والولع عند الكثير من الأمريكيين لاقتناء السلاح مع العلم أن تأثيراته المأساويّة التي يشاهدها الأمريكي وغير الأمريكي يوميّاً على الشاشات ومواقع التواصل الإجتماعي غير خافية على أحد؟ وتكمن صعوبة مناقشة قضية إقتناء السلاح في مجتمع يشهد هذا المنسوب العالي من الإنقسامات أنه بات من المقدّسات عند معظم الأمريكيّين، له ملكوته الذي لا يجرؤ كثيرون على المسّ به. والصعوبة أيضاً أنّ هذا الملكوت يستمدّ نفوذه من عوامل قانونية ودينية وإجتماعية وسيكولوجية متداخلة. في البعد القانوني، ينصّ التعديل الثاني للدستور في سنة 1791 (Second Amendment)، على أنّه “لا يجوز انتهاك حق الناس في تنظيم الميليشيات واقتناء الأسلحة وحملها كون ذلك ضرورة لأمن الدولة الحرّة”. من دون شكّ، هناك خلاف كبير حول تفسير نصّ التعديل الثاني ونطاقه وحدوده بين من يقرأه كما هو، ومن يريد أن يُضمّنه ضوابط بسيطة أو صارمة، ومن يريد أن يلغيه كاملاً. لكن المطالبين بضوابط أو بالإلغاء ليسوا قادرين حتّى الآن على تخطّي العوائق القضائيّة التي تمنع تمرير أي قانون أو تشريع في النطاق الفدرالي، علماً أنه في معظم الولايات يتم وضع قيود جدّيّة على تجارة الأسلحة. واللافت للإنتباه أنّ القانون الأمريكي يسمح لمن هم في عمر الـ 18، 19، و20 سنة بشراء المسدّسات والبندقيّات العاديّة، بينما يمنعهم من شراء الكحول والدخّان (يجب أن يكونوا 21 وما فوق)، وهو أمر عجيب غريب. سماح الدستور الأمريكي باقتناء وحمل السلاح لا يجيب عن سؤالنا كاملاً لأنّ الموضوع، كما ذكرت، له أبعاد سيكولوجيّة ودينيّة وإجتماعيّة إلخ. في البعد السيكولوجي، نجد في المرتبة الأولى الخوف الذي تغذّيه إجمالاً العنصريّة. مثلاً، 67% من الذين يشترون السلاح يقولون إنه للحماية الشخصيّة وأنّهم يخافون من العنف والجريمة ولا يشعرون بالأمان. هذا ليس بالضرورة نتيجة واقع موجود بقدر ما هو نتيجة لما يشاهدون من عنف في الشاشات الصغيرة والكبيرة. من هنا نجد أنّ كثيراً من البيض يقولون إنّهم يقتنون السلاح خوفاً من السود والمهاجرين، أو أنّهم يحملونه من أجل مواجهة الهجمات الإرهابيّة. وهناك عنصريّة معاكسة لكثير من السود الذين يقتنون السلاح خوفاً من البيض أو من رجال الشرطة أو لاعتقادهم أنّ رجال الشرطة يعجزون عن أو يرفضون حمايتهم من البيض.
وهناك أيضاً البعد الإجتماعي ويعكسه النفوذ الهائل للوبي السلاح الذي له تأثير ضخم على صنّاع القرار، في واشنطن وفي معظم الولايات، عبر “الرشاوى” التي تدفعها هذه الشركات إلى السياسيّين بطرق شتّى (معظمها يدخل في ما يسمّى بالتبرّعات السياسيّة “political contributions”)، ويشمل ذلك الحزبين الجمهوري والديمقراطي معاً.
ولشركات السلاح تأثيرها القويّ على عقل أكثريّة ضخمة من الأمريكيّين عبر علاقاتها المتشعّبة وتمويلها أندية الرماية، وجمعيّات الصيد، وجمعيّات أعضاء الشرطة أو الجيش، وأفلام وبرامج العنف التي تزرع الخوف اللاإرادي في رؤوس الناس. كلّ هذه الأمور تجعل من إقتناء السلاح أمراً مقبولاً ومرغوباً، وهو ما تدلّ عليه الإحصاءات لجهة أنّ معظم من يملك السلاح يعيش في مجموعات يتواجد فيها السلاح بشكل عادي جدّاً وتشجّع عليه كأمر طبيعي. ويدخل في هذا الباب النفوذ الهائل للجمعيّة الوطنيّة الأمريكيّة للبندقيّة National Rifle Association of America أو (NRA)، والتي تضمّ حوالي 5 ملايين عضو. في العقود الأخيرة، تبدو الـ NRA وكأنّها شعبة من الحزب الجمهوري نتيجة الدعم المفتوح والعلني وغير المشروط من قِبَل السياسيّين الجمهوريّين، بينما نجد عند كثير من الديمقراطيّين بعض التردّد (معظمه سطحي وغير صادق) مسايرة أو خداعاً للناخبين الرافضين للسلاح. تملك الـ NRA أيضاً شبكة ضخمة من العلاقات (المباشرة أو غير المباشرة) مع مصانع ومتاجر السلاح، أندية الرماية وجمعيّات الصيد البرّي، بعض نجوم هوليوود والفنّ، إلخ، ما يعطيها قدرة كبيرة على تجييش مؤيّديها وإيصال أجندتها إلى الناس، والتي تترجم كضغوط على السياسيّين وحكّام الولايات من أجل عدم تمرير أي تشريعات تحدّ من قدرة الأمريكيّين على شراء أي نوع من السلاح، بما في ذلك البنادق من العيار الثقيل (high caliber) المصنّفة للإستخدام العسكري، وحتّى المدافع وقاذفات القنابل والدبّابات. وللأمانة والدقّة، هناك تشريع للأسلحة ذات الدمار العالي (destructive devices) اعتمده الكونغرس سنة 1934 ويفرض الحصول على موافقة من مكتب الكحول والتبغ والأسلحة الناريّة والمتفجّرات في وزارة العدل ودفع ضريبة قيمتها 200 دولار لامتلاك سلاح من هذا النوع (5 دولارات فقط لوهبها من شخص إلى آخر). وهناك أيضاً البعد الديني، خصوصاً عند التبشيريّين البروتستانت الذين يتقبّلون ويدعمون شراء السلاح واقتنائه كواجب ديني. وثمة كنائس تبشيريّة تشجع أعضاءها على المجيء إلى القدّاس ومعهم مسدّساتهم. هذا العرض يُعطي فكرة عن ملكوت السلاح في أمريكا، والعنف والمآسي التي يسبّبها في المجتمع الأمريكي (ولنضع جانباً، للإيجاز، المآسي التي يسبّبها في العالم). ملكوت يغذّيه ويحميه التطرّف الديني، شركات السلاح، سياسيّون وجمعيّات، عنصريّة بيضاء وسوداء، وحالة من الذعر والخوف تنتشر وتتجذّر بين الناس. كيف سيكون مشهد يوم القيامة في هذا الملكوت؟ نجيب كما أجاب عيسى بن مريم: “علمها عند الله”.
سليمان مراد
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً