مقالات مختارة
ببساطة الفلاّحين وذكائهم الفطري احتلّ جدنا اللبناني فارس الخوري مندوب سورية في ال1946، المقعد الخاص في مجلس الأمن بالمندوب الفرنسي الذي فوجئ بأنّ ممثل سورية الدولة التي تديرها وتنتدبها فرنسا يجلس مكانه. طالبه أوّلاً بالانتقال إلى مقعده المخصص بسورية متصوّراً بأن الرجل تاه في المجلس الدولي، لكن الفارس تجاهله كليّاً ولم يلتفت إليه، بل أخرج ساعته المعلّقة بسنسال من جيب سترته وراح يتأمل فيها. استشاط المندوب الفرنسي رافعاً صوته صارخاً لرئيس المجلس الذي راح يقرع بمطرقته من بعيد معلناً إفتتاح الجلسة، ومندوبو الأمم يستديرون نحو مصدر الضجيج الذي ملأ المكان.
وقف الخوري بعد برهة وتدخلات وتجمعات من حوله أمام “الميكروفون” وخرق بالفرنسية صمت الجمع وانتباهه وقال:
بالنظام حضرة الرئيس. نحن نجتمع اليوم في هذا الصرح الدولي العظيم كي نناقش بند إمكانية نيل استقلال سوريّا التي أُمثّلها. لقد جلستُ على مقعد مندوبها 10 دقائق فقط عن سابق تصوّرٍ وتصميم، فرأيتم جميعاً كيف فقد أعصابه وجنّ جنونه وسادت الفوضى في القاعة والمندوبين الذين أحترمهم وأعتذر منهم. إن دولته فرنسا تحتلّ سورية منذ 30 سنة فلا حاجة بعد لأن أدلي لحضراتكم ما فعلت بشعبنا وبلدنا خلال هذا الزمن الطويل. أما آن لنا أن نستقل وترحل عنّا ونعفيكم جميعاً من هذا النقاش الممل.
صفّق الجمع الدولي كلّه وقوفاً بلا استثناء ما خلا المندوب الفرنسي الذي بقي واقفاً مندهشاً وحيداً…وهكذا كان استقلال سورية بأقصر جلسة خاطفة في تاريخ المجلس.
أثناء دراستي في باريس رحت أنقّب في العام ال1974، في وثائق ال”كي دورسيه” التابع لوزارة الخارجية الفرنسية المسموح بتداولها، وللحقيقة لم أجد سوى سطرين فقط لم ينشرا قط من قبل باللغة الفرنسية:
Fares bey koury، avocat،chérifien،islamophile،….etc… deteste la homme rénal،écouté، retors،éloquenttrès dangeureux France:
أي: “فارس بك الخوري، محام، زعيم ، محب للمسلمين . . إلخ . يحتقر فرنسا، يعشق الماضي، مسموع، داهية، فصيح، خطر جدّاً” .
لا أتصوّر أن لمعظم زعمائنا ومسؤولينا اليوم الكثير في أرشيف الدول العظمى، مع أنّ “ويكيليكس” أمس و” بندورا ” أمس واليوم، تنشر محاضر الاجتماعات ووقائعها المعيبة بين بعض زعمائنا ومبعوثي الأمم والسفراء ناهيك عن المحاصصات والسرقات ونهب الشعوب في لبنان وغيره من فضائح كارثية.
قلت بساطة الفلاحين، لأنّ يعقوب والد فارس الخوري كان نجارا حرفياً لا “للموبيليا”، بل لأدوات الفلاحين القديمة من النير الذي يوضع فوق رقاب الثيران إلى العود والمحراث الذي يمسكه الفلاح إلى المسّاس الذي يوجه فيه خطوط الفلاحة ويحرص على استقامتها ليدعى فلاّحاً ماهراً.
كانت أمنية والده أن يصبح ولده الفارس نجّاراً، بينما كان جدّه جبور “طبيباَ”عربيّاً يداوي المرضى في منطقة حاصبيا في جنوبي لبنان مجاناً بخلط العقاقير، وقد تأثر به فارس كثيرا لكنّه كان يردّد قائلاً: الكتابة مثل الفلاحة وهي تتبعها وتقلدها وإنني أوصي وأتصوّر بأنّ الحضارة بأبعادها الخطابية والكتابية والسياسية والوطنية لربّما جاءت أساساً انعكاساً للحضارة الزراعية الأولى في تاريخ البشرية والإنتاج، لأنّ الأثلام المستقيمة التي يتباهى بها الفلاحون عندما تغور سككهم في الأرض هي القاعدة الذهبية في نجاحهم وشهرتهم لا الأثلام المتعرّجة التي تُقشّر التراب تقشيراً سطحيّاً في الحقول. الأساس الجوهري في الكتابة هي المواقف المستقيمة التي نستقيها ونربطها بالأثلام المستقيمة لدى جدودونا الفلاحين.
الظاهرة الغريبة أنّ فارس الخوري بمواقفه وخطبه ونوادره ما زالت تتناقلها وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي من كافة الفصائل المتناهضة في سورية مع أنّه مولود عام 1877، في الكفير في نائي الجنوب اللبناني وتوفي في العام 1963 وكنّا في زمن العثمانيين تابعين لدمشق.
تُنغّصني بل تقتلني تلك الطائفية في لبناننا المتعب، وأعلن أنّ فارس الخوري المسيحي الذي كان وزيراً للأوقاف الإسلامية في سورية، أبلغه الجنرال غورو يوماً أنّ فرنسا جاءت إلى سورية لحماية المسيحيين في الشرق، فما كان منه إلاّ أن قصد الجامع الأموي يوم جمعة وصعد إلى منبره قائلاً: “إذا كانت تدّعي فرنسا كما سمعت، أنّها تحمينا نحن المسيحيين من المسلمين، فإنني من هذا المنبر أعلن بأن “لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله”. أقبل عليه الدمشقيون وحملوه وطافوا به أحياء دمشق القديمة وهم يهتفون معاً: “لا إله إلاّ الله”. لم يكونوا مسلمين ولا مسيحيين، ولكنهم كانوا سوريين عرباً.
أنشر هذا بحنين لعودة لبنان إلى اللبنانيين بالعودة الى تحكيم العقول لا القلاع واللقع واللعق والقلع ومص الشعب مثل العلق.
د.نسيم الخوري
نقلاً عن الحوار نيوز
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً