مقالات مختارة
كثرت الجدالات والسجالات الفكرية بشأن عدة دول حول تصنيفها الواقعي، وهل هي بالفعل دول حديثة أم ينطبق عليها مفهوم "الكيان الوظيفي".
والثابت أن الكيان الصهيوني هو كيان وظيفي مصطنع لخدمة مصالح الغرب الاستعمارية ورأس حربة لاختراق الوطن العربي وقطع التواصل الطبيعي لنطاق استعماري يعرف في أدبيات الاستعمار بـ"الشرق الأوسط" وذلك لقطع التواصل بين مشرقه ومغربه.
وربما كان أبرز الجدل في منطقتنا يدور حول المملكة الأردنية نظرًا لظروف نشأتها كمنطقة عازلة بين النفوذين البريطاني والفرنسي، وكل ما أثير من تراشق فكري حولها، إلا أن ذلك أغضب الكثيرين من الشعب الأردني ونخبه الفكرية، رغم أن الشعوب لا يمسها توصيف الأنظمة طالما كانت شعوبًا راسخة وتحيا على أرضها وأوطانها.
من هنا يمكن الولوج لما نريد مناقشته، حول المملكة السعودية، والتي لم يتناولها الباحثون من هذا المنظور الوظيفي، ولا ندري هل هو خوف أم حرص على مصالح خاصة، رغم أن مفهوم الكيان الوظيفي ينطبق عليها وعلى نشأتها وتؤيده الأحداث وتطوراتها.
وقبل الخوض في هذه المناقشة ينبغي القول إن ذلك لا يمس شعب المملكة والذي هو بالأساس شعب الجزيرة العربية وأرض الحجاز وهو شعب راسخ ويعيش على أرضه وليس شعبًا مصطنعًا أو غاصبًا، ولكن المناقشة تدور حول نظام آل سعود، والدولة السعودية التي خططت استعماريًا بعناية لتمكينه من حدودها والسيطرة على شعبها، وتمت تسميتها نسبةً إليه واسباغ هذا النسب على الشعب، ليصبح أمرًا نادرًا أن ينسب شعب لاسم عائلة بعينها وكأن هذا الشعب من ممتلكات العائلة!
بدايات التوظيف
منذ البدايات، يذكر التاريخ أن قلق بريطانيا من مشايخ الخليج عجل بتبنيها لابن سعود. وقد تخصص الضابط البريطاني وليام شكسبير (نائب الضابط البريطاني بيرسي كوكس) في منطقة الخليج في الملف السعودي، حيث عمل على تقديم عبد العزيز آل سعود إلى السير كوكس، ووصف شكسبير ابن سعود في رسالة أرسلها لكوكس قائلًا "هذا الرجل زعيم بدوي متخلف ومن الممكن استغلاله لمصلحتنا لتحقيق مآربنا في المنطقة وبسط سيطرتنا على القبائل في الجزيرة"، وفقا لقوله.
معاهدة دارين
وقد وقع الضابط بيرسي كوكس معاهدة دارين عام 1915 مع عبد العزيز آل سعود، وهي الاتفاقية التي جعلت السعودية تابعًا للإنجليز ورسمت سياستها العامة، وتتضمن بنودها اعتراف الحكومة البريطانية بسيادة ابن سعود على نجد والقطيف وجبيل وجميع المدن والمرافئ التابعة لها، كما يتعهد عبد العزيز بالامتناع عن "كل مخابرة أو اتفاق أو معاهدة مع أي حكومة أو دولة أجنبية".
ونصت الاتفاقية على أن ابن سعود لا يمكن أن "يتنازل عن الأراضي أو جزء منها ولا أن يؤجرها أو يرهنها أو يتصرف بها بأي شكل ولا أن يقدّمها على سبيل الامتياز إلى أي دولة أجنبية أخرى أو لأي أحد من رعايا دولة أجنبية دون موافقة الحكومة البريطانية".
رواتب شهرية
حصل عبد العزيز على مرتب شهري ودعم بالسلاح بعد اتفاقيته مع السير كوكس، وكان راتبه الأول 5000 جنيه إسترليني، وساهمت هذه المساعدة في مواجهة خصومه.
في حربه ضد آل رشيد كان الطرفان يتبادلان في بعض الأحيان رسائل للتهدئة، إلا أن عبد العزيز في إحدى رسائله للسير كوكس ولزيادة ولائه له لتدعيم حكمه، قال عن رفضه التصالح مع آل رشيد: "كما تعلمون سعادتكم أنه (ابن الرشيد) بعث إليّ برسول مع كتاب يُعرب فيه أنه ينوي السلم، أجبته أنه يستطيع أن يُصبح صديقًا لنا بشرط أن يُظهر الصداقة نحو صديقتنا الحكومة البريطانية وحلفائها من رؤساء العرب كالشريف، وأن لا يقوم بأي شيء لا ترضى عنه الحكومة البريطانية أو ضدها. وعندما سلّمت الرسالة إلى ابن الرشيد فإنه أعقبها بجواب كتبه إلينا رافضًا فيه هذه الشروط كما ترون من رسالته".
بذرة الكيان الوظيفي
في يناير ١٩١٥، وأثناء مَهمّة لعرض معاهدة تحالف مع بريطانيا على ابن سعود (الملقّب حينها بأمير نجد والإحساء وتوابعها)، أشار المسؤول السياسي النقيب ويليام هنري إرفين شكسبير إلى إمكانية أن يصبح ابن سعود "تابعًا لبريطانيا للأبد"، ليس خلال الحرب الحالية فحسب، بل لفترة طويلة في المستقبل أيضًا. وُقعت المعاهدة في وقتٍ لاحق من تلك السنة، وأُبرمت معاهدة ثانية عُرفت بمعاهدة جدة سنة ١٩٢٧.
بسط النفوذ بهندسة بريطانية
وبالولاء الكبير الذي أبداه ابن سعود للبريطانيين للحصول على دعمهم من الرواتب والأسلحة، استطاع أن يقضي على آل رشيد ويبسط نفوذه على الأراضي التي جعلها مملكةً له ولأبنائه من بعده، مرسومةً بحدود إنجليزية ومحدودةً بشروطهم.
جون فيليبي وتوظيف الوهابية
ظهر جون فيليبي في شبه الجزيرة العربية بعد مصرع القائد شكسبير، إذ إن مكتوبًا وصل من رئاسة المخابرات الإنجليزية يؤيد إرسال جون إلى آل سعود لدعمهم، وأيضًا ليتسلم مسؤولية الأوضاع السياسية، حيث كانت المنطقة مشتعلة بالثورة على الدولة العثمانية.
عمل فيليبي على أن يُحيي الفكرة الوهابية ليستطيع إيجاد أنصار في كل مناطق البلاد لاستخدامهم، ووظف العملاء من أجل إيصال المعلومات عن خصوم آل سعود، وأتبع أسلوب ببث الإشاعات في المدن والقرى التي ما زالت خارج السيطرة، وعمل على فرض وجهاء جدد في الكثير من المناطق التي لم يكن وجهاؤها السابقون راضين عن عمله.
نال فيليبي ثقة عبد العزيز بن سعود، حتى إنه أعلن إسلامه وسمى نفسه الحاج عبد الله فيليبي، وبدأ بحضور مجالس العائلة المالكة. وتقول المصادر إن إعلان فيليبي لإسلامه إنما كان من أجل تسهيل تنقله في مناطق المملكة، وذلك بقصد تأدية دوره على أتم وجه.
وكان للضابط الإنجليزي دور مهم عبر وساطته بين عبد العزيز والدول الكبرى للاعتراف بمملكة آل سعود. وأثر هذا بشكل إيجابي على انطلاقة ابن سعود في علاقاته الدولية، إضافةً إلى أن الضابط جون توسط بين الحكومة السعودية والشركات الأوروبية والأمريكية في شتى المجالات خاصة قطاع النفط، فعمل على دعم آل سعود سياسيًا واقتصاديًا بكامل طاقته.
وعقب تأسيس المملكة العربية السعودية سنة ١٩٣٢، حافظت بريطانيا على علاقتها الوثيقة بمؤسس الدولة الجديدة وحاكمها، الملك ابن سعود، ولكن مع الوقت حلّت الولايات المتحدة الأمريكية محلّها في لعب دور الراعي والحامي الغربي الرئيسي للمملكة.
بحلول سنة ١٩٣٢، كانت العلاقات الودّية بين بريطانيا وأسرة آل سعود الحاكمة قد ترسّخت. فقد أدركت الحكومة البريطانية أهمية كسب ود الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (المعروف بابن سعود) إبّان المراحل الأولى للحرب العالمية الأولى، حيث اعتُبر حينها حليفًا محتملًا ضد الإمبراطورية العثمانية.
استبدال الولايات المتحدة ببريطانيا
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، استؤنف إنتاج النفط في المملكة العربية السعودية وتبدلت أحوال البلاد. وفي حين أن بريطانيا حافظت على علاقاتها الودية مع ابن سعود، فقد كان نفوذها في المملكة قد بدأ بالانحسار، حيث ساهم وجود شركة كاليفورنيا العربية للزيت القياسي منذ ثلاثينيات القرن العشرين في ازدياد اهتمام الحكومة الأمريكية بشؤون البلاد، الأمر الذي نتج عنه تعيين قنصل أمريكي في الظهران سنة ١٩٤٤.
وساهم اجتماعٌ بين ابن سعود والرئيس روزفلت على متن السفينة الأمريكية كوينسي في فبراير ١٩٤٥ في توطيد العلاقات بين البلدين، الأمر الذي شكّل نقطة تحول مهمة في المنطقة. فبعد أن حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا في دور الراعي والحامي الغربي الرئيسي للمملكة العربية السعودية، سرعان ما أصبحت الولايات المتحدة القوة الإمبريالية المهيمنة في الشرق الأوسط.
ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا والمملكة خادمة لمصالح أمريكا وتشكل ذراعًا موازية للكيان الصهيوني، حيث توظف امكانياتها لعرقلة التحرر الوطني والمقاومة، وتشن الحروب والدعايات على حركات التحرر والمقاومة بداية من جمال عبد الناصر وصولًا لايران وحزب الله.
فإن لم يكن النظام السعودي كيانًا وظيفيًا، فماذا يمكن أن نسميه؟
إيهاب شوقي ـ العهد
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً