الثبات – مقالات
مصادر التشريع الإسلامي (5/17)
فضيلة الشيخ علي جمعة الأزهري
تكلمنا في المقالة السابقة عن عدد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرنا تراجم للمكثرين من الرواية منهم، وتكلمنا عن قضية تدوين السنة من الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهل تمَّ ذلك أم إنهم اكتفوا بالرواية؟
وكانت الإجابة أنَّ الصحابة رضوان الله عليهم دونوا السنة بشكل مكتوب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأثبتت الأحاديث ذلك، وذكرنا أن منها ما أذن به النبي صلى الله عليه لعبد الله بن عمرو بن العاص.
وفي هذه المرة نكمل ذلك الموضوع ونورد أحاديث أخرى تثبت أن تدوين السنة بدأ في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يكن تدويناً مقنناً ورسمياً، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش، فقالوا: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «أُكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ؛ وأشار بيده إلي فيه» [رواه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان رجل يشهد حديث النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحفظه، فيسألني، فأحدثه فشكا قلة حفظه إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «استعن بيمينك، وأشار بيده إلي الخط» [رواه الترمذي في سننه].
وقد تلقف الصحابة الكرام هذا الإذن النبوي الكريم فشرع كثير، منهم في كتابة الحديث الشريف، فمن الصحابة الكاتبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد روى البخاري بسنده إلي أبي جحيفة، قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قلت: أو ما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر.
ومن الصحابة الكاتبين عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد أثمرت كتابته هذه صحيفة عبد الله التي أسماها الصادقة، وكانت قريبة جدًا إلي قلبه، فقد قال تلميذه مجاهد: دخلت عليه فتناولت صحيفة تحت رأسه فتمنع عليّ فقلت تمنعني شيئاً من كتبك؟ فقال: هذه الصحيفة الصادقة التي سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه فيها أحد، فإذا سلم لي كتاب الله، وهذه الصحيفة، والوهط: فما أبالي ما كانت عليها الدنيا، والوهط أو الوهطة حديقة كانت لعمرو بن العاص، وآلت من بعده لابنه عبد الله.
ومن الصحابة الكاتبين أبو هريرة رضي الله عنه، ورغم أنه لا يعرف الكتابة، فإنه كان يستكتب لنفسه، وقد حفظت لنا صحيفة من صحفه رواها عنه تلميذه التابعي همام بن منبه، ثم نسبت إليه فقيل عنها: صحيفة همام، وعرفت بذلك واشتهرت به، ولقد سمعها من شيخه أبي هريرة المتوفي سنة 59 هـ علي أرجح الأقوال.
ومعنى ذلك أنها كتبت في منتصف القرن الأول الهجري تقريبا. وهذه الصحيفة تعتبر من الأدلة اليقينية على أن السنة قد شرع في تدوينها منذ مرحلة مبكرة جدا، كما أنها تعتبر وثيقة تاريخية مهمة حيث إنها وصلت إلينا كاملة، وقد تتبع الأستاذ سيد صقر سلسلة رواتها، فقال: وقد رواها عن همام رواة كثيرون، آخرهم معمر بن راشد ثم عبد الرزاق، عن معمر بن راشد، ثم آخر من رواها، عن عبد الرازق إسحاق الدبري، ثم آخر من رواها من إسحاق أبو القاسم الطبراني المتوفي 360 هـ، ومن رواها عن عبد الرازق الإمام أحمد بن حنبل، ولقد أتى بها كاملة في مسنده.
وقد عثر الباحث المحقق الدكتور محمد حميد الله علي نسختين متماثلتين في دمشق وبرلين لهذه الصحيفة، وعدد أحاديث هذه الصحيفة ثمان وثلاثون ومائة حديث، وهي محققة ومطبوعة
وهذه الصحيفة وإن لم تكتب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها كتبت في عصر الصحابة، كاتبها همام، كتبها عن شيخه أبي هريرة مباشرة، ولذلك جعلناها من صحف الصدر الأول. وهذه الصحيفة من بين الأدلة على أن الصحيحين لم يستوعبا كل الأحاديث الصحيحة، لأنها رويت كلها بإسناد واحد، فدرجة أحاديثها في الصحيفة واحدة، ومع ذلك أخرج البخاري ومسلم بعضها ولم يخرجها كاملة.
ومن الصحابة الكاتبين عبد الله بن أبي أوفي المتوفى بالكوفة سنة 87 هـ، ولقد كتب كتابا إلي عمرو بن عبيد الله بن معمر القرشي أمير فارس عندما وجهه عبد الله بن الزبير إلي حرب الأزارقة، وقد قرأ هذا الكتاب سالم أبو النضر مولي عمرو وكاتبه، وقد حدث بما فيه من أحاديث، وقد روى البخاري في صحيحه بعضها.
والخليفة الأول رضي الله تعالى عنه كتب شيئا من السنة أيضا، فقد ذكر البخاري بسنده إلي أنس بن مالك رضي الله عنه، أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له فريضة الصدقة التي أمر بها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. «من بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده إلا حقة، فإنها تقبل منه الحقة ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له أو عشرين درهما..... الخ».
ومن الصحابة الكاتبين، أبو رافع مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان له كتاب دفعه إلي أبي بكر بن عبد الرحمن القرشي أحد الفقهاء السبعة.
وكان أنس من الصحابة الكاتبين وقد قابله عتبان بن مالك، فكتب عنه أنس حديث زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، له ونص الحديث عند مسلم: روى مسلم بسنده، إلي أنس بن مالك، عن محمود بن الربيع، عن عتبان بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، قال أنس قدمت المدينة فلقيت عتبان، فقلت: حديث بلغني عنك: قال: أصابني في بصري بعض الشيء، فبعث إلي رسول الله صلى الله عليه وسلمأني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي، وهو حديث طويل وفي آخره، قال أنس: فأعجبني هذا الحديث، فقلت لابنى، اكتبه، فكتبه».