عندما يستعد أردوغان لترك منصب “السلطان”!

الخميس 06 كانون الثاني , 2022 02:24 توقيت بيروت مقالات مختارة

مقالات مختارة

سعي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وراء السلطة بلا أي رادع، يأخذ تركيا في اتجاه خطير. وإذا لم يتم وضع استراتيجية فعَّالة لحمله على مغادرة المشهد السياسي الآن، وضمان إنتقال السلطة بسلاسة، فإن حالة عدم الإستقرار المرتقبة ستطال أوروبا والشرق الأوسط. "والجميع سيتذكر أردوغان فقط كزعيم ألقى ببلده ومواطنيه في الفوضى"، كما يرى سونر كاجابتاي في هذا التقرير الذي نشرته "الفورين أفيرز"(*).

على مدى الأشهر القليلة الماضية، بدا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يائساً بشكل متزايد. فقد صعَّد من قمعه للمنتقدين والمعارضين السياسيين، بمن فيهم ميتين جوركان، العضو المؤسس لحزب الديموقراطية والتقدم المعارض (DEVA)، الذي أُعتقل في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بتهمة التجسس. وهو أيضاً هدَّد بفصل دبلوماسيين أتراك يعملون في الولايات المتحدة وقطع علاقاته مع بعض حلفاء تركيا داخل حلف شمالي الأطلسي (الناتو). ومع انخفاض شعبيته في الداخل، شرع أردوغان في تجربة متهورة لخفض أسعار الفائدة وسط تضخم مرتفع بالفعل، ما أدخل البلاد في حالة من الاضطراب الاقتصادي. كما أنه؛ في الوقت نفسه؛ يواجه معارضة جريئة وموحدة أكثر من أي وقت مضى، وباتت تشكل – للمرة الأولى – مصدر تهديد فعلي ومباشر لحكمه. 
كان التحول دراماتيكياً بامتياز. فعلى مدى معظم العقدين الماضيين، بدا أردوغان وكأنه شخصٌ لا يُقهر، أولاً كرئيس للوزراء بين 2003 و2014، ثم كرئيس للبلاد منذ عام 2014. خلال تلك الفترة، جلب إزدهاراً جديداً للطبقات الوسطى في تركيا، ودفع حزب العدالة والتنمية (AKP) الذي يتزعمه إلى الفوز في أكثر من 12 انتخابات جرت على مستوى البلاد. كما أنه نجا من حروب جرت على أعتابه، ومن محاولة إنقلاب استهدفته في عام 2016. وبعد أن نصَّب نفسه كـ”سلطان جديد”، استطاع أن يكتسب سيطرة واسعة على القضاء والإعلام والشرطة وغيرها من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، حتى عندما كان يقمع المعارضين السياسيين بلا رحمة. 
لحظة الحساب 
لكن في السنوات الأخيرة، فقدت شعبوية أردوغان الاستبدادية سحرها. فمنذ محاولة الإنقلاب الأخيرة، أصبحت حكومته مذعورة. هذه الحكومة لم تكتف بملاحقة مدبري الانقلاب المُشتبه بهم فحسب، بل وأيضاً أعضاء المعارضة الديموقراطية، واعتقلت لاحقاً عشرات الآلاف من الأشخاص، وأجبرت أكثر من 150 ألفاً آخرين على ترك وظائفهم معظمهم من الأكاديميين والصحافيين لمجرد الاشتباه بأن لهم صلات بالانقلاب أو معارضتهم لأردوغان. أضف إلى ذلك التدخلات المتزايدة في عملية الإنتخابات ونتائجها – كما حدث مؤخراً عندما حاول أردوغان وحكومته قلب نتائج انتخابات بلدية اسطنبول لعام 2019 وفشلوا. كل هذه الممارسات ساهمت في تحفيز عمل المعارضة، وليس العكس. 
عندما وصل إلى السلطة في عام 2003، تم الترحيب بأردوغان باعتباره مُصلِحاً سيبني ويعزز المؤسسات الديموقراطية.. لكن سُرعان ما أظهر نزعات استبدادية 
الآن، ومع التراجع الكبير في الدعم الذي كان يتمتع به، يواجه زعيم أقدم ديموقراطية وأكبر اقتصاد بين إيطاليا والهند لحظة الحساب: ففي غضون 18 شهراً من الآن، ستجري تركيا انتخابات رئاسية من غير المرجح أن يفوز بها أردوغان. كما أنه؛ وفي حال تمت الإطاحة به؛ سيخضع للمقاضاة بسبب إرثه الطويل من الفساد وإساءة استخدام السلطة. لا شك أن أردوغان سيحاول بذل كل ما في وسعه للبقاء في منصبه، بما في ذلك تقويض عملية التصويت العادل، أو تجاهل النتيجة، أو حتى إثارة تمرد شبيه بالذي وقع في واشنطن في 6 كانون الثاني/يناير 2021. إذن، التحدي الأكبر الذي يواجه البلاد هو كيفية إدارة عملية إنتقال السلطة بطريقة لا تهدد أُسس الديموقراطية التركية، وإلَّا فالاحتمالات المرتقبة هي إندلاع مواجهات وموجات من عدم الإستقرار قد تتخطى حدود البلاد لتطال أوروبا والشرق الأوسط. 
إنحراف الديموقراطية 
عندما وصل إلى السلطة في عام 2003، تم الترحيب بأردوغان باعتباره مُصلِحاً من شأنه أن يبني ويعزز المؤسسات الديموقراطية في البلاد. في البداية، ظهر وكأنه وحزب العدالة والتنمية يفيان بهذه الوعود. ففي عهد أردوغان أصبحت الطبقة الوسطى- ولأول مرة – تمثل الأغلبية العظمى في المجتمع التركي. كما أنه نجح في تطوير الخدمات وتأمينها لجميع المواطنين (مثل الرعاية الصحية)، وخفَّض معدلات البطالة، وحقق نمواً إقتصادياً قوياً. كذلك عزَّز من بعض الحريات، ولا سيما منح بعض الأقليات (مثل أكراد تركيا) حق تعليم لغتهم في المدارس. 
لبعض الوقت، جعلت هذه السياسات (الإنجازات) أردوغان يتمتع بالشعبية في الداخل والخارج. محلياً، بنى قاعدة من المؤيدين المحبين، الذين كانوا في الغالب من المحافظين والريفيين والعمال، ومن الطبقة المتوسطة الدنيا الذين صوتوا بشكل موثوق لحزب العدالة والتنمية. وهذا ما شجع الولايات المتحدة وأوروبا على إعتبار حكومة أردوغان “نموذجاً للديموقراطية الليبرالية الإسلامية”، وجعل من تركيا الدولة التي تم التفكير بجدية في عضويتها في الاتحاد الأوروبي. 
لسنوات، وبينما كان أردوغان يُعزّز من شعبيته الاستبدادية، كان بإمكانه الاعتماد على معارضة منقسمة، غير أن الوضع الآن يتغير 
لكن سُرعان ما بدأ أردوغان في إظهار نزعات استبدادية. ففي عام 2008، أطلق العنان لما يسمى بقضية إرغينكون Ergenekon (**)، التي طالت أكثر من 140 شخصاً (بينهم ضباط وعسكريون وصحافيون وقضاة ومحامون..) أُعتقلوا بتهمة الانتماء لمجموعة سرية مسلحة و”التخطيط لإنقلاب ضد الحكومة المُنتَخبة ديموقراطياً”، والقيام بـ”أنشطة معادية للديموقراطية”. في الواقع، سُرعان ما اتضح أن أردوغان – وبمساعدة من رجل الدين فتح الله غولن، زعيم “حركة غولن” وحليفه في ذلك الوقت، هما من ساعدا أتباعهما في الشرطة والإعلام والقضاء في اختلاق الأدلة التي تستهدف معارضي أردوغان الديموقراطيين، وذلك في محاولة لاجتثاث العلمانيين الذين بدأوا يسيطرون على مؤسسات الدولة لفترة طويلة. 
قفز على الحبال 
في العقد الثاني من حكمه، إتبع أردوغان تكتيكات أكثر قسوة من أجل الحفاظ على سلطته. في عام 2013، استخدم القوة لقمع احتجاجات “جيزي”، حيث خرج ملايين المتظاهرين المناهضين للحكومة إلى الشوارع في اسطنبول ومدن تركية أخرى. وبعد الاحتجاجات، شدَّدت الحكومة الخناق على المجتمع المدني، وفرضت قيوداً مشددة على النشاطات السياسية. بعد ذلك، وفي أعقاب محاولة الانقلاب عام 2016، فرض أردوغان حالة الطوارئ لمدة طويلة كانت كافية لقمع كل ما رأى فيه تهديداً محتملاً لحكمه. كما شنَّ حملة اعتقالات انتقامية كبيرة ضد حلفائه السابقين في “حركة غولن”، وطرد الآلاف من أتباع غولن المزعومين والمعروفين من مناصب حكومية وزجَّ بهم في السجون، وانضم إليهم في ما بعد عددٌ كبير من الإشتراكيين والديموقراطيين الاجتماعيين والعلويين (طائفة مسلمة ليبرالية) والليبراليين واليساريين والقوميين الأتراك والأكراد والوسطيين وحتى بعض المحافظين المعارضين لأردوغان. 
في غضون ذلك، بدأ أردوغان يبتعد عن محور علاقات تركيا الطويلة مع أوروبا والولايات المتحدة. في عام 2013، ألقى باللوم على الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما بخصوص الانقلاب الذي نفذه الجنرال عبد الفتاح السيسي في مصر، واصطف بشكل متزايد مع القوى الإسلامية السياسية في الشرق الأوسط، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين. على الرغم من أنهما كانا في البداية على طرفي نقيض من الحرب الأهلية السورية، أصبح أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين على وفاق في نهاية المطاف. فبعد التواصل الذي حصل في أعقاب محاولة الانقلاب عام 2016، وافق بوتين على السماح لتركيا بمطاردة وحدات حماية الشعب الكردية السورية (YPG)، التي كانت الولايات المتحدة تعتمد عليها لمحاربة عناصر ما يُسمى بـ”الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، والتزم أردوغان بصفقة شراء نظام الدفاع الصاروخي الروسي الصنع S-400. بحلول عام 2020، واجه أردوغان عقوبات أميركية قاسية بسبب اتفاقية الدفاع الروسية تلك، ودخل التحالف بين واشنطن وأنقرة، الذي دام سبعة عقود، أكبر أزمة له في الذاكرة الحديثة. 
لقد توَّج أردوغان نفسه كـ”سلطان جديد” لتركيا، وأصبح في الوقت نفسه رئيساً للدولة، ورئيساً للحكومة، ورئيساً للحزب الحاكم، ورئيساً للشرطة 
تعديل السلطان 
لسنوات، وبينما كان أردوغان يُعزّز من شعبيته الاستبدادية، كان بإمكانه الاعتماد على معارضة منقسمة. من بين ما يقرب من ستة فصائل تنافسه بانتظام في صناديق الاقتراع، بدءاً من القوميين الأتراك، والقوميين الأكراد، والعلمانيين وصولاً إلى الإسلاميين السياسيين. معارضتهم المشتركة لحكم حزب العدالة والتنمية جعلتهم يتجاوزون كراهيتهم المتبادلة. كانت هذه الانقسامات تعني أن حزب أردوغان يمكن أن يفوز في الانتخابات بسهولة، كما فعل باستمرار خلال السنوات الـ15 الأولى من حكمه. 
لكن في عام 2017، ارتكب أردوغان خطأ مصيرياً عندما أجرى تعديلاً في الدستور وحوّل النظام السياسي التركي من ديموقراطية برلمانية إلى نظام رئاسي تنفيذي. كذلك ألغى منصب رئيس الوزراء، وهذا التعديل منح أردوغان سيطرة أكبر ومباشرة على بيروقراطية الدولة، وفي الوقت نفسه أضعف سلطات المجلس التشريعي. في الواقع، لقد توَّج أردوغان نفسه كـ”سلطان جديد” لتركيا، وأصبح في الوقت نفسه رئيساً للدولة، ورئيساً للحكومة، ورئيساً للحزب الحاكم، ورئيساً للشرطة (وهي قوة وطنية رئيسية في تركيا). 
مع ذلك، وبرغم كل السلطات التي منحها أردوغان لنفسه، فقد أدى “الإصلاح الدستوري”؛ عن غير قصد؛ إلى تقوية المعارضة. ففي ظلّ النظام البرلماني، جرت الانتخابات بين جميع الأحزاب في وقت واحد، ممَّا أعطى حزب العدالة والتنمية ميزة طبيعية على منافسيه المتعددين. لكن النظام الرئاسي الجديد يتطلب جولة الإعادة بين المرشحين الرئيسيين. وهذا يعني أن مرشح المعارضة الرئيسي لديه الآن حق الجمع بين ائتلاف واسع مناهض لأردوغان تحت راية واحدة. 
بمنح نفسه المزيد من السلطة، عزَّز أردوغان المعارضة عن غير قصد
 إنهيار القاعدة الحزبية 
تعتمد كتلة المعارضة الحالية على تحالف بين فصيلين رئيسيين: العلماني، الممثل بحزب الشعب الجمهوري اليساري (CHP)، والحزب الصالح القومي التركي (IYI). وقد دعم حزب الشعوب الديموقراطي المؤيد للأكراد والليبراليين هذا التحالف بشكل غير رسمي، كما فعل عدد من القوى الأخرى الصغيرة والوسطى واليمينية، بما في ذلك حزب فيليسيتي (SP)، وهو حزب إسلامي سياسي يُعارض حزب العدالة والتنمية ويكيله تهماً عدة من بينها الفساد. سياسياً، هذه الأحزاب متباعدة في العديد من القضايا، لكنها مُتحدة بشكل متزايد في رغبتها في هزيمة أردوغان. 
في غضون ذلك، تنهار قاعدة حزب العدالة والتنمية التابعة لأردوغان. انخفض الدعم للكتلة الشعبوية الحاكمة، التي تضم حزب العدالة والتنمية وحزب العمل القومي الأصغر، وهو حليف لأردوغان منذ عام 2018، إلى حوالي 30 إلى 40 في المائة في استطلاعات الرأي، بعدما كان يشكل 52 في المائة في الانتخابات الرئاسية لعام 2018. كذلك، انضم بعض مؤيدي حزب العدالة والتنمية السابقين إلى حزب الحركة القومية، وذهب آخرون إلى أحزاب معارضة تأسست مؤخراً مثل DEVA، بقيادة وزير الاقتصاد السابق علي باباجان. وهذا يعني أن على أردوغان الآن الإعتماد على أقلية لقمع الأغلبية، وهو ما سيكون صعب التحقيق مع نظام جولة الإعادة الجديد. 
قصة مدينتين 
إلى جانب النظام الانتخابي الرئاسي الجديد، فإن الاقتصاد هو أكبر نقاط ضعف أردوغان اليوم. في عام 2018، غرق الاقتصاد التركي في أول ركود له منذ وصول أردوغان إلى السلطة، وفي السنوات التي تلت ذلك، أدى التراجع إلى تآكل دعم حزب العدالة والتنمية في أهم مدينتين في تركيا: اسطنبول، وعاصمة الأمة – أنقرة. 
في عام 2019، فاز أكرم إمام أوغلو، من حزب الشعب الجمهوري، بالمنافسة على تولي منصب رئاسة بلدية إسطنبول، ممَّا أظهر؛ ولأول مرة؛ أن المعارضة يمكن أن تهزم حزب العدالة والتنمية في سباق إنتخابي ثنائي الاتجاه. لكن الانتخابات أظهرت أيضاً المدى الذي كان أردوغان مستعداً للذهاب إليه من أجل الحفاظ على هيمنة حزب العدالة والتنمية. فعندما خسر مرشحه، إدعى أردوغان وقوع مخالفات في مجالس الانتخابات التي أشرفت على التصويت، وأمر بإجراء انتخابات جديدة. (هيئة الرقابة الوطنية التابعة لمجلس الإدارة أرجأت تصديقها النهائي على النتائج لأسابيع، في انتظار إشارة من الرئيس. وبعد أن أعلن في أيار/مايو أن تصويتاً جديداً ضرورياً سوف يجري، عادت الهيئة وتدخلت لتدعو إلى إعادة الانتخابات الشهر التالي). ومع ذلك، لم ينخدع الناخبون: ففي حين هزم أكرم إمام أوغلو في الانتخابات الأولية مرشح أردوغان بفارق ضئيل بلغ 13 ألف صوت، فاز سياسي حزب الشعب الجمهوري بإعادة الانتخابات بعد ثلاثة أشهر بأغلبية 800 ألف صوت. 
إذا استمر الوضع الحالي، فإن أردوغان يتجه نحو تصادم مع الناخبين مما سيكون له تداعيات عميقة على مستقبل تركيا 
هذه النتيجة – جنباً إلى جنب مع فوز حزب الشعب الجمهوري للمرة الثانية على يد منصور يافاس في أنقرة في آذار/ مارس – دمرت؛ وبشكل فعلي؛ صورة “أردوغان التي لا يُقهر”. ووفقاً لاستطلاعات رأي جرت مؤخراً، فإن كلا من رؤساء بلديات حزب الشعب الجمهوري وزعيمة الحزب القوميIYI  (ميرال أكسينر) سيهزمان أردوغان في منافسة رئاسية ذات اتجاهين. يتنافس الثلاثة (يافاس وأكسينر وحزب وحزب الشعب) على القيادة الشاملة للمعارضة، لكن في رحلة قمت بها مؤخراً إلى تركيا، علمت أن كل واحد منهم سيدعم المرشح الأول ضد أردوغان في جولة ثانية. أرقام الاستطلاع هذه تترك أردوغان في وضع صعب. ومع توقع أن تصل نسبة التضخم إلى 20٪ في عام 2022، فإن آفاق احتمال حدوث إنفراجات اقتصادية تبدو قاتمة بشكل متزايد. في الوقت الحالي، تتمثل أفضل إستراتيجيته في محاولة دق إسفين بين الحزب القومي (IYI) والفصائل اليمينية الأخرى ضد شركائهم اليساريين. لكن قادة المعارضة، الذين يضعون في اعتباراتهم الانتصارات التي حققوها في عام 2019، ملتزمون بالبقاء معاً. باستثناء حدوث تحول دراماتيكي في الأحداث، مثل حظر أردوغان لأحزاب المعارضة الرئيسية وسجن قادتها أو تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، فإن النتيجة المرجحة لأردوغان في عام 2023 ستكون هزيمة مدوية سيبذل هو وأنصاره كل ما بوسعهم لتجنبها. 
أردوغان مقابل الناخب 
إذا استمر الوضع الحالي، فإن أردوغان يتجه نحو تصادم مع الناخبين مما سيكون له تداعيات عميقة على مستقبل تركيا. هناك طريقتان محتملتان قد يسير بها التصادم المرتقب. في البداية، يخسر أردوغان الانتخابات لكنه يزعم على الفور حدوث تزوير على نطاق واسع. بعد ذلك، وفي إعادة للعرض الذي شهدته إسطنبول في عام 2019، سيسعى إلى إلغاء النتيجة، ما سيوقع البلاد في أزمة. 
وكما جرى في الولايات المتحدة عام 2020، فإن مثل هذا الهجوم على نظام الانتخابات الوطنية سيكون تطوراً غير مسبوق. ومع ذلك، يبدو الأمر مقبولاً بالنسبة لأردوغان، بالنظر إلى استعداده السابق لتقويض المؤسسات الديموقراطية في تركيا، وطبيعة دائرته الداخلية الحالية، وتصميمه على التمسك بالسلطة. فمنذ عام 2018، أصبح أردوغان يدير عملية صنع القرارات في البلاد بشكل فردي تقريباً، ما عدا مشاركة زُمرة تخدم نفسها داخل القصر الرئاسي والتي أزاحت إلى حد كبير الأذرع المهنية للحكومة والشبكة السياسية الواسعة التي اعتمد عليها ذات يوم. هؤلاء هم مستشارو القصر الذين دفعوا أردوغان للتخلي عن نتائج اسطنبول، وإذا تعرض أردوغان للهزيمة مرة أخرى، فيمكنهم فعل الشيء نفسه على المستوى الوطني.. 
في تلك المرحلة، سيواجه أردوغان احتجاجاً شعبياً عارماً، حيث يملأ مئات الآلاف من أنصار المعارضة شوارع المدن الرئيسية في تركيا. لكنه أيضاً بإمكانه نشر الشرطة الوطنية – وهي قوة حديثة مسلحة بشكل جيد يزيد عدد أفرادها عن 300 ألف فرد وهي مسؤولة مباشرة أمامه – مما يسرّع من شن حملة قمع عشوائية. كما سيحظر جميع المظاهرات على الفور، ويعتقل منظمي الاحتجاج الرئيسيين، ويغلق وسائل التواصل الاجتماعي، وربما يعلن حظر تجول، يليه فرض حالة طوارئ مُحتملة مثل تلك التي فرضها بعد انقلاب 2016. يمكن للجماعات الموالية لأردوغان أن تنفذ أعمال عنف ضد المتظاهرين بدعم ضمني من الشرطة. بالفعل، في السنوات التي تلت التحول إلى النظام الرئاسي، كانت هناك موجة مقلقة من العنف ضد قادة المعارضة وصنَّاع الرأي، بما في ذلك تعرض زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كيليجدار أوغلو لهجوم نفذه حشد مؤيد لأردوغان في نيسان/أبريل 2019 قبل إعادة التصويت في اسطنبول. انتصار شرطة أردوغان سينهي الديموقراطية في تركيا. 
مؤيدو أردوغان يمكن أن يشنوا تمرداً شبيهاً بما فعله مؤيدو ترامب في 6 كانون الثاني/يناير 2021 
لكن التحرك لإلغاء النتائج ليس الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يقوض بها أردوغان الانتخابات. والاحتمال الثاني أنه قد يحاول هو ومستشاروه تصحيح التصويت مقدماً. وإذا فعلوا ذلك، فمن المرجح أن يفشلوا. في هذا الصدد، فإن تجربة اسطنبول في عام 2019 معبرة. عندما ألغى أردوغان التصويت الأول، نظمت المعارضة حملة بارعة تحت عنوان “حماية التصويت” لإعادة الانتخابات، شارك فيها حوالي 100 ألف متطوع تولوا مراقبة مراكز الاقتراع، وتوثيق عدد الأصوات على الهواتف الذكية، وحتى قضاء الليل وهم يحرسون صناديق الاقتراع منعاً لأي تزوير (في تركيا، يسمح القانون للمواطنين بمراقبة فرز الأصوات). سيتم توثيق أي جهد من جانب أردوغان للتدخل في انتخابات 2023، مما يثير رد فعل شعبي بما في ذلك بين العديد من الذين صوتوا لصالحه. 
وبالتالي، فإن النتيجة الأكثر ترجيحاً هي: إما أن تندلع احتجاجات ضخمة، بحيث تنجر الشرطة والمعارضة مرة أخرى إلى معركة السباق للسيطرة على شوارع تركيا. أو أن تنتصر المعارضة؛ إذا تم اكتشاف التدخل مبكراً وكان التصويت ناجحاً ومحمياً. لكن أردوغان والقوى الخاضعة لسيطرته ربما يصرون على رفض قبول النتيجة، وسيكون هناك سؤال صعب يتعلق بكيفية ضمان انتقال سلمي وسلس للسلطة إذا رفض هو وأنصاره التنازل، دون دفع تركيا إلى حالة من عدم الاستقرار. 
منظمة العفو البديلة 
نظراً لاحتمال حدوث تدخل مزعزع للإستقرار من جانب أردوغان وداعميه في الانتخابات الرئاسية، فإن الإستراتيجية الأفضل للمعارضة تتمثل في السعي إلى عقد صفقة كبيرة معه لترك منصبه طواعية. في الواقع، تتمتع المعارضة بنفوذ كبير في منطقة واحدة على وجه الخصوص. فبالإضافة إلى فقدانه للسلطة، يواجه أردوغان خطر تعرضه للملاحقة الجنائية بتهمة الفساد ومقتل العشرات على يد الشرطة ومعاناة الكثيرين الآخرين الذين أساءت إليهم حكومته. كما تورط أفراد من عائلته في فضائح فساد ويمكن توجيه تهم إليهم. هناك احتمال حقيقي أن يقضي أردوغان سنواته الأخيرة في سجن تركي أو في المنفى، إذا خسر التصويت. وهكذا، يمكن للمعارضة إقناعه بالتنحي مقابل الرأفة له ولأسرته، ممَّا يؤدي إلى انتقال سلس للسلطة. 
إذا لم يتم وضع استراتيجية فعَّالة لحمل أردوغان على مغادرة المشهد السياسي الآن، فقد ينتهي به الأمر إلى أن يتم تذكره على أنه الزعيم التركي الذي “كذَّب حتى أكاذيبه”، مدعياً أن الانتخابات قد سُرقت منه، وألقى ببلده ومواطنيه في حالة من الفوضى 
سيكون من الصعب الوصول إلى هكذا صفقة كبيرة. ستتردد العديد من جماعات المعارضة اليسارية في تأييد العفو. وقد لا يوافق أردوغان نفسه على رفع غصن الزيتون، بغض النظر عن مدى تشدد شروطه. كثير من أنصاره لا يشعرون بالندم ويرفضون أي حوار مع المعارضة. ففي الأونة الأخيرة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صورة لوزير داخلية أردوغان ورئيس الشرطة الفعلي، سليمان صويلو، وهو يحمل مدفعاً رشاشاً، قائلاً، “تعالوا خذونا إلى المحكمة!”، ما يعني ضمناً أن قادة حزب العدالة والتنمية سيردون على أي هزيمة انتخابية بتمرد مسلح، على غرار ما حدث في الولايات المتحدة في 6 كانون الثاني/يناير 2021.
يتمثل أحد البدائل في جعل القوات المسلحة التركية، وهي تقليدياً المؤسسة الأكثر احتراماً في البلاد، بمثابة الضامن لاتفاق يُعقد بين أردوغان والمعارضة. بالنظر إلى تاريخ تركيا في التدخل العسكري – بما في ذلك الانقلاب الوحشي عام 1980 – قد لا يبدو أن دعوة الجنرالات إلى السياسة فكرة جيدة. ومع ذلك، كقوة قائمة على التجنيد، يُعد الجيش التركي أحد المؤسسات الوحيدة المتبقية في البلاد التي يجتمع فيها الأتراك المؤيدون والمعارضون لأردوغان، بما في ذلك النساء، اللواتي يعملن في سلك الضباط. في السنوات الأخيرة، تبنت القيادة العسكرية أيضاً سياسة الحياد في ما يتعلق بالسياسات الداخلية للبلاد، مما يجعلها واحدة من الأذرع القليلة المتبقية للدولة للحفاظ على هوية غير حزبية إلى حد كبير. وكحليفين لتركيا، يمكن للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أيضاً المساعدة في دعم انتقال سريع وسلس للسلطة والتهديد بفرض عقوبات على الأفراد الذين يسعون لتقويضها. مثل هذه الإستراتيجية ليست مضمونة، لا سيما إذا تم إغراء الجيش بإستعادة دوره في القيادة السياسية للبلاد، لكنها إستراتيجية قد تكون أفضل الخيارات المتاحة لمنع انهيار الديموقراطية في تركيا. 
بصفتي مراقباً وثيقاً لمسيرة أردوغان المهنية، أصبحت من أشد المؤمنين بحدود المدة. لو أن أردوغان كان ترك المشهد بعد العقد الأول من توليه الحكم، مع سجل من النمو الاقتصادي القوي والدعم الشعبي الواسع، لكان يُنظر إليه اليوم على أنه أحد أكثر القادة نجاحاً في تركيا. ولكن سعيه وراء السلطة بلا أي رادع، خلال السنوات الأخيرة، قاده وتركيا في اتجاه خطير للغاية. وإذا لم يتم وضع استراتيجية فعَّالة لحمله على مغادرة المشهد السياسي الآن، فقد ينتهي به الأمر إلى أن يتم تذكره على أنه الزعيم التركي الذي “كذَّب حتى أكاذيبه”، مدعياً أن الانتخابات قد سُرقت منه، وألقى ببلده ومواطنيه في حالة من الفوضى.

(*) النص الأصلي بالإنكليزية على موقع “الفورين أفيرز“.  

(**) إرغينكون، بالتركية Ergenekon؛ منظمة سرية تأسست عام 1999 وأهم أهدافها المحافظة على تركيا دولة علمانية وعسكرية وقوية كما كانت في عهد كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة.

 

منى فرح

نقلاً عن 180post

 

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً


مقالات وأخبار مرتبطة

عاجل