مقالات مختارة
منذ إنشائه في العام 1981، لم يستطع مجلس التعاون الخليجي أن يثبت فعاليته في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين دوله، إذ إنَّ المملكة السعودية حرصت دائماً على تحويله إلى أداة تستطيع من خلالها أن تفرض رؤيتها ومشروعها السياسي.
وإذا كانت الأزمة الخليجية التي سبّبها اجتياح الرئيس العراقي السابق صدام حسين لدولة الكويت ساهمت في إظهار المجلس كوحدة متجانسة متكتلة في وجه الخطر العراقي، مع ما فرضته تلك المرحلة من انتظام خلف الأحادية الأميركية، فإن التغيرات التي حكمت واقع التوازنات الدولية والإقليمية في المرحلة اللاحقة ساهمت في إظهار مدى فقدان التوازن والاستقرار على مستوى العلاقات الخليجية الخليجية.
وإذا كان من الممكن أن نصف واقع العلاقات بين الممالك الخليجية منذ تسعينيات القرن الماضي بنوع من اللااستقرار وغياب الإجماع وفقدان التوافق حول مجمل القضايا التي واجهتها، فإن الثابت أن حالة الخلاف بينها لم تخرج من إطار ما يمكن توصيفه بالحرب الباردة، غير أنَّ الأحداث التي عصفت بالدول العربية منذ العام 2011، ساهمت في تنامي الشعور بعدم الثقة المتبادل بين المملكة السعودية وبعض الممالك الخليجية الأخرى، نتيجة ترجمة التباعد بين رؤاها عبر دعم الجيوش والقوى المتنافسة على مساحة مناطق النزاع العربية.
وعلى الرغم من حالة التباعد والتناقض التي سببتها تلك الأحداث، فإنَّ الممالك الخليجية حرصت على إبقاء صراعاتها محصورة ضمن إطار خلافات البيت الواحد. ويمكن القول إنها نجحت في هذا الأمر، إلى حين تصدر المشهد العربي انقلاب الجيش المصري على الرئيس المنتخب محمد مرسي في العام 2013، إذ أدى هذا الحدث إلى انقسام حاد داخل البيت الخليجي بين المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين من جهة، ودولة قطر الداعمة للرئيس المخلوع من جهة أخرى.
ولم يمضِ وقت طويل حتى جاء الاتفاق النووي بين الجمهورية الإسلامية والقوى الكبرى ليزيد الانقسام الخليجي عمقاً بين مؤيد للاتفاق، حيث كانت قطر والكويت تراهن على انعكاسات هذا الاتفاق الإيجابية على الأمن والاستقرار في المنطقة، مقابل رفض سعودي إماراتي لهذا الاتفاق، بحجة اعتباره اعتداء على المصالح العربية.
من ناحية أخرى، لم يكن تصدّر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للمشهد السياسي السعودي مساعداً في عملية ترتيب البيت الداخلي الخليجي، إذ إن السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية في عهده لم تلتزم بالمحددات التي كرّستها القيادات السابقة كأساس لتنظيم العلاقات مع دول الجوار.
وإذا كان المعلن أنَّ المحددات التي ارتكزت عليها السياسة الخارجية السعودية تتمثل دائماً بتعزيز العلاقات مع الدول الخليجية، ومراعاة حسن الجوار، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى من جهة، وتفضيل أساليب القوة الناعمة، حيث اعتماد الدعم المالي للحلفاء، والتأثير في الجماعات والدول من خلال الرشاوى والمساعدات، من جهة أخرى، فإن الرؤية التي حكمت السياسات الخارجية لمحمد بن سلمان افتقدت إلى البعد الاستراتيجي المساعد في فهم المتغيرات الإقليمية والدولية، واتسمت بأسلوب اندفاعي يعتمد القوة العسكرية وسياسات التدخل والحروب العدوانية، ويفتقر إلى الخبرة الضرورية لإدارة بلد يملك إمكانيات هائلة.
إضافةً إلى ذلك، تطوّرت الميول الاندفاعية لولي العهد منذ تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، إذ شكّل التشابه في نوعية الخطاب وغياب الضوابط الحاكمة لسياساتهما فرصة لدعم ولي العهد في سياسته الخارجية وفق سياقات هجومية، إذ إنَّ الخطاب الأميركي في تلك المرحلة تقاطع مع رؤية ولي العهد لناحية إمكانية استخدام القوة ضد الجمهورية الإسلامية وضرورتها، إضافةً إلى تأمين الغطاء الواقعي للحرب السعودية على اليمن وحماية ابن سلمان من أي تبعات محتملة عقب اغتيال الصحافي السعودي جمال الخاشقجي في سفارة بلاده في تركيا.
وإذا كانت تلك الملفات بعيدة عن البيت الخليجي الداخلي، فإنَّ جموح ولي العهد تعدى حدود البيت الخليجي، ليطال دولة قطر، إذ إنَّه لم يتردد في التهديد باحتلال أراضيها إذا أصرت على سياساتها المناهضة لمصالحه، وبادر إلى فرض حصار عليها بغية تطويعها، انطلاقاً من رفضه سياساتها الداعمة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وعلاقاتها مع كل من تركيا والجمهورية الإسلامية، غير أنّ رياح الانتخابات الأميركية لم توافق مشروع ابن سلمان، إذ شكل وصول جون بايدن إلى البيت الأبيض نكسة لتطلعات ولي العهد الموسومة بالقوة الخشنة والنار.
ومع الإشارة إلى أن نية السعودية تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي لم تساعد في إغراء الإدارة الأميركية الجديدة، أعلنت الإدارة الأميركية عزمها على محاكمة المسؤولين عن اغتيال الخاشقجي، كما أعلنت قطع الدعم اللوجستي للقوات السعودية في اليمن، وتجميد بعض صفقات السلاح المرتبطة بهذه الحرب، ثم تفاقمت تعقيدات العلاقات السعودية الأميركية مع إعلان الإدارة الأميركية أنها تفضّل خيار التفاوض مع الجمهورية الإسلامية من أجل حل إشكالية برنامجها النووي، مع التسليم بالموقف الإيراني المتشدد لجهة عدم ضم دول المنطقة، وخصوصاً المملكة السعودية، إلى أي مفاوضات مرتقبة.
إذاً، يمكن القول إنَّ السياق الذي اعتمده محمد بن سلمان منذ ظهوره على الساحة السياسية السعودية، والذي افتتحه بحربه على اليمن، ومحاولة كسر المقاومة الداخلية لمشروعه عبر قمع المعارضة بالقوة المفرطة، ثم استيلائه على ولاية العرش، وعزل الأمراء المنافسين، وإخضاع مراكز القوى الدينية والاقتصادية، واحتجاز عدد كبير من الأمراء ورجال الأعمال في فندق "الريتز"، وصولاً إلى محاولاته الارتقاء بسمعته عبر إطلاق مشاريع يعتبرها تقدمية، كهيئة الترفيه ورؤية 2030، اصطدم بعدم الرضا الأميركي الذي عبر عنه الرئيس الأميركي جون بايدن، حين صرح بضرورة تقليم أظافر ابن سلمان وتحجيم دوره.
وعليه، يمكن القول إن ولي العهد السعودي فشل في الخروج من الصورة النمطية التي حكمت تاريخ المملكة العربية السعودية ودورها منذ نشأتها، فالدور الفاعل للمملكة لم يكن مرتبطاً بشخصية القائد الحاكم فيها فقط، وإنما بمزيج من العوامل الداخلية المرتكزة على توافق أجنحة الأسرة الحاكمة على شخصه من جهة، ومساندة أو مباركة خليجية من دول مجلس التعاون، معطوفة على غطاء أميركي مفصلي للدور المحدد للمملكة ضمن الإطار الاستراتيجي للسياسات الأميركية في المنطقة والعالم، من جهة أخرى.
ومن باب فقدان أدوات القوة التي راكمها خلال الفترة الرئاسية لدونالد ترامب، عاد ولي العهد السعودي إلى اعتماد الأسلوب التقليدي الذي دأبت عليه الأسرة الحاكمة منذ نشأتها، فزياراته إلى الممالك والمشيخات الخليجية من دون استثناء دولة قطر أو الكويت أو سلطنة عُمان، تدل على نيته تبني خيارات مختلفة لناحية الشكل والمضمون عن تلك التي حكمت سياساته منذ توليه الإدارة الفعلية للمملكة.
وفي تقدير خيار العودة إلى تبني مسار التوافق مع الممالك والمشيخات الخليجية، يمكن القول إنها تندرج، بعد تثبيت موقعه في الداخل، في إطار الاعتراف بضرورة الانطلاق في مشروع الوصول إلى العرش السعودي من منطلقات التوافق الخليجي الضروري في عملية تسويق جدوى توليه العرش السعودي في الأروقة الدولية، وخصوصاً الأميركية.
وإذا كان التوافق والتضامن الخليجي خلف المملكة العربية السعودية وولي العهد فيها ضرورياً، لناحية تثبيت ترشيحه لتولي العرش، فإن المنطق والمتغيرات الدولية والإقليمية يفترضان ضرورة تخلّي المملكة عن مشاريعها التدخّلية المتعارضة مع الرؤية الأميركية لتوازنات المنطقة، وذلك بما يمكن توصيفه بالعودة إلى المربع الأول الذي شكل، وما يزال، المنطلق الأساسي لضمان الرعاية الأميركية للأسرة السعودية الحاكمة، أي ما يمكن توصيفه بإعلان الولاء والالتزام الحرفي بمخططات الإدارة الأميركية في المنطقة.
وسام إسماعيل ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً