مقالات مختارة
لم يكن ينقص الانهيار الدراماتيكي، الذي يشهده لبنان على المستويات الاقتصادية والمالية والاجتماعية، سوى انفجار أمني، حتى يستكمل الانهيارُ أوصافَه المدمِّرة لما تبقّى من حياة اللبنانيين. نقصانٌ إيجابيٌّ صمد خلال السنتين الماضيتين على الرَّغم من تعرُّضه لاهتزازاتٍ متعدِّدة، شكّلت خطورة على الواقع الأمني الهشّ الذي لطالما ميّز بلاد الأرز في أوقات الأزمات السياسية أو الاقتصادية.
لكنّ هذا الصمود خاض قبل أكثر من أسبوع أخطر اختباراته، عندما تعرَّضت التظاهرة، التي سارت في اتجاه قصر العدل في بيروت، لاستهدافٍ بالرصاص الحيّ، أدّى إلى سقوط سبعة شهداء وجرح العشرات عند تقاطع منطقة الطيونة - عين الرمانة، التي أعادت إلى ذاكرة اللبنانيين صورةً من صور الحرب الأهلية، بحيث شكّلت هذه المنطقة خطَّ تماسٍ تاريخياً في تلك الحرب.
السياق السياسي
كان يمكن لهذه التظاهرة لمؤيدي المقاومة أن تصل إلى مكانها المحدَّد، أمام قصر العدل، للاحتجاج على ما يعتبره السائرون فيها انحرافاً للتحقيق في انفجار مرفأ بيروت عن مساره القضائي، وسلوكَ مسارٍ سياسي ممنهَج وموجَّه في اتجاه المقاومة وحلفائها.
وكان من الطبيعي أن يحدث ذلك؛ أي أن تصل التظاهرة إلى أمام قصر العدل، حيث يطلق المتظاهرون مواقفهم وآراءهم، ثم يُطرقون عائدين بصورةٍ سلميةٍ، بعد أن أوصلوا صوتهم المعترض على تسييس التحقيق في هذه القضية الخطرة، والتي تتصدَّر عناوين النقاش السياسي في لبنان هذه الأيام، متفوقةً، في حدّة طرحها، على الانهيار الشامل، اقتصادياً واجتماعياً، والذي يلفّ البلاد ويفتّتها.
وكان يمكن أيضاً لستة شبّانٍ وسيدة أن يعودوا عند ظهر ذلك اليوم إلى بيوتهم وعائلاتهم، ويتابعوا حياةً اتّخذوا فيها خياراً وطنياً متمثّلاً بمناصرة المقاومة، وتأييد خياراتها والانخراط في مشروعها، والتعبير عن ذلك من خلال المشاركة في تظاهرة ضد استهدافها أولاً وآخِراً.
وكثيرٌ كان ممكناً، وبديهياً، لكنه لم يحدث. ما حدث فعلاً، هو ما وشت به مجموعة من التصريحات والمواقف والتحركات والعلائم والإشارات، وأوصلت جميعها إلى كمينٍ مسلَّحٍ نُصِب لمجموعة من المتظاهرين، في سياقٍ سياسيٍ، له أهدافه وتبعاته.
ففي الليلة السابقة للحدث، وبعد الدعوة إلى التظاهرة والإعلان عن مسارها وهدفها، زنَّر ناشطون سياسيون مؤيدون لحزب "القوات اللبنانية"، بزعامة سمير جعجع، منطقة الأشرفية في شرقيّ بيروت بالصلبان المضيئة، ونشطت حركة هؤلاء المناصرين في منطقة عين الرمانة، ومنها وإليها، نشاطاً غير عادي.
سبق هذه الإشاراتِ الميدانيةَ نشاطٌ مماثل سياسياً، بحيث رافقت هذه الأحداثَ تصريحاتٌ من مسؤولي القوات اللبنانية وحلفائهم، علَّقت على كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وكان آخرُها تصريحاً لجعجع نفسه في الليلة السابقة للحدث، علّق خلاله على التظاهرة التي كانت ستنطلق في اليوم التالي بالقول إنه "في مقابل كل شارع هناك شارع آخر". وفي التصريح نفسه، أخذ لنفسه دورَ الوصيّ على التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، رافضاً كل القرائن والهواجس التي تحدّث عنها السيد نصر الله، قبل أن يدعوه إلى انتظار ادّعاء بيطار بعد التحقيق، والحكم من القضاة الذين سيتسلّمون القضية في مرحلة إصدار الأحكام.
وفي السياق أيضاً، تندرج حملةٌ واسعة تُشَنّ عبر فاعلين سياسيين وأحزاب وقنوات إعلامية وناشطين سياسيين وشخصيات متنوعة، يدورون جميعهم في فلك النفوذ الأميركي في لبنان. وتستهدف الحملة المقاومة وحلفاءها، انطلاقاً من التسريبات التي تنتشر يوماً بعد آخر عن تحقيقات القاضي بيطار، من دون أن يظهر ملفٌ كاملٌ للعلن يمكّن الناس جميعهم من الحُكم على مسار القضية. لذلك، فإن كمية المعلومات المتوافرة اليوم من التحقيق الجاري تقتصر على الاستدعاءات ومذكِّرات التوقيف التي قطعها بيطار بحق شخصيات سياسية من فريق المقاومة وحلفائها، وعلى أخبار عن مسؤولية هؤلاء المحدَّدة، وفق بيطار، في "القصد الاحتمالي" المعطوف على مواد قانونية تتعلَّق بالقتل والإحراق والتسبب بالأضرار... من دون أن تنسحب هذه الأجواء على مسؤولين سياسيين من الفريق الآخر شغلوا مناصب أكثر ارتباطاً بالقضية طوال السنوات التي وُجِدت فيها المواد الخطرة في مرفأ بيروت، حتى انفجارها. كما أن كمية المعلومات المحددة هذه تمتلكها قنوات وإعلاميون من اتجاه واحدٍ يدور في فلك الفريق المناهض للمقاومة وحلفائها.
بالتوازي مع هذه الحملة، أتت أحداث الطيونة وكمينها لتطرح فكرة وسؤالاً أساسيَّين، بعيداً عن تفاصيل الأحداث ميدانياً: مَن أوكل إلى القوات اللبنانية تشكيلَ فريق ميداني مؤيّد للمحقق طارق بيطار، يواجه متظاهري الفريق الآخر؟ وهو ما يستتبع سؤالاً آخر: لماذا حضر مناصرو جعجع إلى مفترق الشارع المتاخم للتظاهرة إذا لم تكن النية افتعال إشكال، والإطباق على التظاهرة في كمين مُحْكَم؟
الكمين الأمني - السياسي
شكَّلت المواقف السياسية من فريق "القوات اللبنانية"، قبل الجريمة وبعدها، استفزازاً غير مسبوق في درجته لمؤيدي المقاومة. وبصرف النظر عن تعرُّض التظاهرة، في أثناء مرورها بمحاذاة منطقتي بدارو وعين الرمانة، لاستفزازاتٍ أدّت إلى اشتباك بالأيدي سبق إطلاق رصاص القنص في اتِّجاه المتظاهرين، فإن مجرد انتشار قنّاصين على أسطح أبنية هو عملٌ جرمي يستدعي تدخل الجيش والقوى الأمنية من أجل اعتقالهم ومنعهم من إطلاق النار قبل حدوث الكارثة.
غير أن ما حدث كان مغايراً. أُطلقت النار على المتظاهرين، فسقط أولُهم وهو يحاول الفصل بينهم وبين الشبّان الذين تعرَّضوا لهم بالاستفزاز، ثم سقط آخر... حتى وصل العدد إلى سبعة شهداء وعشرات الجرحى.
وبعد الحدث مباشرةً، بل ربما في أثنائه، كانت الحملات في وسائل التواصل الاجتماعي بدأت، وراحت تحمّل مسؤوليةَ ما جرى للطرف المقتول، وهو الطرف الداعي إلى التحرك، والذي اعترض على أداء القاضي، وطلب من الناس النزول إلى الشارع للتعبير عن هذا الاعتراض. في المقابل، حاولت هذه الحملة التعمية على حقائق ميدانية طازجة ودامغة، مفادها قيام قنّاصين بقتل متظاهرين في الشوارع، وصولاً إلى قنص سيدة داخل منزلها.
لقد بدأ الاستفزاز المؤدي إلى الجريمة من البيئة السياسية التي جهَّزتها "القوات اللبنانية" في المنطقة التي أُطلقت منها النيران على المتظاهرين. فهذه الأخيرة لا تنفكّ تبثّ، بين صفوف أبناء هذه المنطقة، مادةً سياسية تعبوية قائمة على إخافة المسيحيين من المسلمين، واستثمار عملية الترهيب هذه من أجل حشد التأييد السياسي، تحت عنوان أن "القوات" وزعيمها هما الحاميان للمسيحيين من الشريك الآخر في الوطن.
المفارَقة هنا هي أن الشريك الآخر، والذي يُراد اتِّهامُه بتشكيل خطر على المسيحيين، هو نفسه الفريق الذي دافع عن مقدَّسات المسلمين والمسيحيين في سوريا، وعن المناطق التي يسكنها مسيحيون عند الحدود اللبنانية السورية حين تعرضت لهجومات متتالية من تنظيمي "داعش" و"النصرة" قبل سنواتٍ قليلة.
وعندما لم يكن ممكناً إنكارُ هذه الحقيقية الدامغة، تمَّت فبركة منطق معاكس يتَّهم المقاومة بأنها "تتحدث عن ذلك"، أو أنها تدّعي تفوُّقاً أو وصاية على من تحميهم، تحت شعار "لسنا أهل ذمة" في لبنان. وهنا، يمكن لحظ هذا الشعار المتكرر في كل مرة يبرز فيها عمل جديد تحمي من خلاله المقاومة شعبَها المكوّن من المسيحيين والمسلمين. فلو لم تَقُم المقاومة بالدفاع لقيل إنها تميز طائفياً بين مواطن وآخر، وبين شريحة وأخرى. وعندما تدافع، تُتَّهَم بأنها تدّعي وصاية على المواطنين الآخرين.
الانتخابات النيابية بَوْصَلة الأحداث
أفلتت من لسان جعجع العبارةُ الأكثر دلالة على فحوى الخطاب والأحداث التي يديرها في مواجهة المقاومة، حين حدَّد، في سياق حديثه عن أحداث الطيونة، الهدف الكبير والمباشِر له ولفريقه السياسي. زعيم "القوات" قال إن الهدف الأساس هو "تغيير الأغلبية النيابية". وتحت هذا العنوان الكبير، تُساق اتِّهامات واستفزازات، وتُدار أحداث دموية وتعبئة سياسية خطرة، ليس على السلم الأهلي في لبنان فحسب، وإنما أيضاً على وجود البلاد برمتها، في شكلها الذي نعرفه، وهي التي تعيش أخطر ظروفها منذ نشأة الكيان اللبناني قبل مئة عام.
في موازاة هذا الهدف، يلفت التطابق بين هدف جعجع المعلَن، وما يُنْقَل من الأحاديث عن المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت، طارق بيطار، الذي يقول إن التغيير السياسي سوف يحدث، وإنه حريص على ذلك. وهو ما أكده النائب علي حسن خليل خلال لقاء أجرته معه قناة "الميادين"، وكشف فيه معلومات عن انخراط بيطار في سياق سياسي يتضارب مع موقعه وعمله كمحقق عدلي في قضية فائقة الأهمية.
استدعاء جعجع أمام المحكمة العسكرية
بعد تكشُّف مشهد الرابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر عن مشهد مجزرة حقيقية، من خلال سقوط شهداء وجرحى، وعَبْرَ صُوَر أعادت إلى الأذهان مشاهد الحرب الأهلية، ومع تقدُّم التحقيقات، قرّرت المحكمة العسكرية استدعاء رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع على خلفية أحداث الطيونة، الأمر الذي تم ربطه بصورةٍ أساسية باعترافات موقوفين لدى الجيش اللبناني، يُشتَبه في مشاركتهم في استهداف المتظاهرين.
ومع أن هذا الاستدعاء بات موضوع أخذ وردّ في لبنان، غير أن ارتباطه باعترافات موقوفين من "القوات اللبنانية" نفسها يرجّح فرضية العمل المنظَّم في تفسير أحداث الطيونة. الثابت حتى الآن هو استدعاء جعجع من جانب مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، القاضي فادي عقيقي. والثابت أيضاً متابعة هذا الاستدعاء من جانب المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، من دون أن يثبت تجميد الاستدعاء.
إفشال الأهداف السياسية والأمنية للكمين
انعكست أحداث الطيونة سياسياً بصورةٍ بالغة الحدة، بالإضافة إلى انعكاس أداء القاضي بيطار على الأجواء العامة في البلاد. وأرخى هذان العنوانان بظلالهما على نشاط الحكومة التي لم تعد إلى الاجتماع بعدُ، بعدَ أن باتت مطالَبةً بموقف واضح من تسييس التحقيق واستخدامه في سياق عملية تزخيم سياسي لجهود تغييرية قبيل الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها في الربيع المقبل.
وفي الوقت الذي تحاول أطراف داخلية، وأطراف خارجية تدعمها، تحويلَ الحدث السياسي اليومي في لبنان إلى منصّة دائمة للهجوم على المقاومة ونَصب الأشراك لها، واتهامها بالسعي للاشتباك، سياسياً وأمنياً - علماً بأن المقارنة المنطقية بين قدرات هذه المقاومة ومطالبها المحلية لا تستقيم وهذه الاتهامات- كان العنوان الأكثر بروزاً في أحداث الطيونة وكمينها، ليس قدرة الفريق الآخر على القتل، ولم يكن أيضاً قدرة فريق المقاومة على رد الأذى، والانطلاق نحو أعمالٍ انتقامية للأرواح التي سقطت، بل إن اللافت، هذه المرة، كان مستوى المسؤولية الاستثنائي الذي مارسه حزب الله وحركة "أمل"، عقب تعرُّض مناصريهما لمفاعيل هذا الفخ.
لقد تمكن الطرف الأَقوى من ضبط شارعه وعناصره، واستوعب اللحظة السياسية، مُفْشِلاً فخاً بالغ الخبث والحساسية، في العنوان وفي المكان والتوقيت والهدف، ليضع جعجع في زاوية المتَّهَم التي رافقته منذ ولادته كقائد سياسي، حتى خرج طوال الأسبوع الحالي للدفاع عن نفسه وتبرير ما اقترفه. لقد أثبتت المقاومة، مرةً جديدة، أنها قادرة على حماية لبنان، ليس بالسلاح وحده.
نورالدين اسكندر ـ الميادين
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الثبات وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً